رؤية – ثورات إنسان المستقبل

 

فقرات الموضوع:

استهداف إنسانية الإنسان

أولوية إنسانية الإنسان

دور جيل المستقبل

الثورة.. تغيير تاريخي

 

طلّ الملوحي.. الطالبة المدوّنة السورية عاشقة الحرية في كتاباتها.. اعتقلها الطاغوت – وآخرين من أمثالها – قبل اندلاع الثورة وما زال مصيرها مجهولا، وتهمتها أنّها كانت من السباقين في طلب الحرية بالكلمة السلمية.

أسماء محفوظ.. الطالبة الثائرة والشابة القائدة التي ساهمت إسهاما كبيرا في صناعة ثورة مصر الكبرى، يحاكمها المجلس العسكري الحاكم في مصر في نطاق "انحيازه المزعوم للثورة"، وتهمتها: إهانة مقام المجلس العسكري بالكلمة الناقدة.

الشهداء من شباب الثورة والتغيير في ساحات التحرير والتغيير في اليمن.. مستهدفون بالقذائف التي لا تُستخدم عادة إلا في حروب نظامية ضدّ "عدوّ" مدجّج بالسلاح.

زينب الحمصي.. ابنة التسعة عشر ربيعا في سورية، اغتالها الإثم الفاجر الحاكم بعد التعذيب الهمجي، لأنها شقيقة شاب ثائر شهيد.

حمزة.. وتامر.. وهاجر.. وغيرهم.. شهود على أن الاستبداد الفاسد القمعي في سورية تخصيصا، قد بلغ بهمجيته مبلغا سبق به الأقدمين والمعاصرين، وشهود على استهداف جيل المستقبل تحديدا، من خلال ممارسة مزيد من صنوف إرهاب جيل الآباء والأمهات الذين يصنعون في بيوتهم المستقبل، بعد أن تحوّلت حرفة السياسة عند الأنظمة الحاكمة إلى تدمير الحاضر والمستقبل على السواء.

 

استهداف إنسانية الإنسان

هذا مشهد من مشاهد حقبة تاريخية تسلّل الإجرام المحض إلى كتابة بعض سطورها، التي لا يستطيع تصوّر مضامينها أو تصوّر ما يشابهها خيالُ مبدع قصصي لموضوع فيلم من أفلام الرعب والإجرام بجميع ضروبها وصنوفها.

مشهد يتساءل عمّا بقي من المعاني لكلمات عزيزة نردّدها صباح مساء: الإسلام، الدين، الإنسانية، القومية، الوطنية، العروبة، التربية، الرجولة، الطفولة، الرحمة، الوجدان، الضمير..

نحن لا نعايش فيما تشهده سورية واليمن ومن سبقهما من أقطار عربية ببضع خطوات – ولم تبلغ الغاية المنشودة بعد – على طريق التحرر.. لا نعايش مواجهة بين اتجاهات سياسية، أو صراعا بين  فئات شعبية، ولا حتى معركة من المعارك ضدّ الظلم بجميع صوره التقليدية المعروفة، بل نعايش تحوّلا جذريا يتناول أعمق أعماق الوجود الإنساني نفسه، يتناول في جوهره السؤال الحاسم ما بين إنسانية الإنسان، وهبوط بعض من ينتسبون إلى الجنس البشري إلى الدرك الأسفل الذي يمكن أن يهبط إليه هذا المخلوق بسلوكه وغرائزه – ولا يمكن أن نقول بعقله أو فكره أو أحاسيسه – فلا يقارن ما يُصنع مع أي جنس من أجناس المخلوقات الأخرى، إذ لا يوجد في ممارسات عالم الحيوان ما يشابه ذلك، وتعبر عنه صور مذهلة توصل إليها العلماء والباحثون المتخصصون في علم الحيوان، ما يتمنّى المرء لو ينتقل بعضها إلى التكوين النفسي والاجتماعي والوجداني لأولئك الذين يمارسون ما يمارسون قهرا وتعذيبا وفتكا وتنكيلا.. بالإنسان، وعلى وجه التخصيص عندما تبلغ نذالة المجرمين مداها، أي عندما تفتقر الضحية القدرة على الدفاع عن نفسها.. فتكون من المعتقلين، أو العزل من السلاح، أو من الأطفال والناشئة.

 

أولوية إنسانية الإنسان

في سورية حيث بلغت الهمجية مبلغ همجية الأبالسة والشياطين، وفي اليمن حيث بلغ التقتيل للشبيبة الثائرة درجة غير مسبوقة، وفي ليبيا التي بدا أنها بدأت تتجاوز مع جراح عميقة حقبة إجرامية فريدة من نوعها.. لم يعد السؤال المطروح مقتصرا على دعم الشعوب المضطهدة ضدّ استبداد الطغاة وفسادهم.

السؤال هو سؤال الدفاع عن المستقبل، فاستهداف جيل المستقبل هو عملية اغتيال همجية لمستقبل البلاد بغض النظر عن أي اعتبار آخر.

السؤال هو سؤال الدفاع عن جنس الإنسان فالهمجية المطلقة في هذا الاستهداف هي همجية اغتيال إنسانية الإنسان من وراء أي عنوان آخر.

وإن الوقوف موقف الحياد، ناهيك عن مواقف التواطؤ مع الإجرام أو الدفاع العقيم عنه، هو جريمة بحدّ ذاته، يتحدّث عنها المتخصصون في القانون بوصف "المشاركة في الجريمة عبر الامتناع عن صنع شيء لمنع وقوعها".

 

ونقول بكل وضوح لأولئك المشاركين في الجريمة:

لا يوجد أي عنوان يمكن أن يسوّغ صنيعكم بحال من الأحوال، فقتل إنسانية الإنسان واغتيال جيل المستقبل هو العنوان الأكبر، المقدّم شأنه على شأن سواه، حتى لو كان معتبرا وحقيقيا، فكيف عندما يكون موبوءا بالتزييف والتضليل والاستغلال، كما هو الحال مع عناوين المقاومة والممانعة في سورية، وعناوين الشرعية الدستورية ونقل السلطة سلميا كما في اليمن، وما شابه ذلك في سواهما؟

إن إنسانية الإنسان والحفاظ عليها، والانطلاق منها، وتأكيدها، هي الأصل الجامع، أو الذي ينبغي أن يكون جامعا، بين كل من يتبنّى توجّها من التوجهات، أو منهجا من المناهج، أو نظرية من النظريات، سيان تحت أي عنوان من العناوين الكبرى السالف ذكرها وأشباهها: الإسلام، الدين، الإنسانية، القومية، الوطنية، العروبة، التربية، الرجولة، الطفولة، الرحمة، الوجدان.

 

دور جيل المستقبل

لقد أثبت المجرى الهمجي لممارسات أركان الاستبداد والفساد والإجرام عبر كراسي التسلّط على الشعوب، أنّ ثورات الشبيبة، هي ثورات الدفاع عن مستقبل الأمة، على مستوى قطري ومستوى جماعي وعلى مستوى التعامل مع الأسرة البشرية في وقت واحد.

وأثبتت هذه الثورات الشبابية في انطلاقتها، الشعبية في امتدادها، أنّ جيل المستقبل أدرك مسبقا أبعاد المعركة التاريخية التي يقودها، ولا تزال جهات عديدة من مختلف المواقع والتخصصات وفي مختلف الأمكنة، تسعى لاستيعاب ما يريده جيل المستقبل ويصنعه بنفسه.

هذه ثورات تصنع المستقبل لهذا الجيل، ومن خلال ذلك للشعوب، ووعي الشعوب بذلك وثقتها بخيرة من أنجبت لبناء المستقبل، هو الذي جعلها تمضي من وراء جيل الشبيبة، وتقدم التضحيات البطولية غير المسبوقة في التاريخ، والشاملة لجميع فئات الشعب، ليس من زاوية تصنيف قائم على عوامل التفرقة التي صنعها الاستبداد كي يعزّز تسلّطه، كعوامل الانتماءات القومية والطائفية والاجتماعية وغيرها، بل هي التضحيات المعبرة عن وحدة الشعوب المطلقة، على ما هو أعمق من ذلك مغزى، فلا يمكن التمييز بين رجل وامرأة، وشيخ ورضيع، وشاب وكهل، وموظف وعامل، وجندي ومدني.. لأنه لا يمكن التمييز بين إنسان وإنسان.

لا يوجد مثل ذلك التمييز على صعيد الكرامة الإنسانية الشاملة لبني آدم، ولا يفقه الاستبداد ذلك، سيّان تحت أي عنوان.

لا يوجد مثل ذلك التمييز على صعيد الحريات والحقوق، على صعيد الذكر والأنثى، على صعيد الغني والفقير، ولا على أي صعيد آخر، ولا يفقه ذلك من يدافع زورا لأي سبب عن أي وضع استبدادي.

وشرّ التعليلات في الحالتين ما بات يتردّد تحت عناوين "مؤامرة وأجندة أجنبية"، فبدلا من دعم الثورات كيلا تتعرضّ لأفاعيل قوى أجنبية لها مآربها، يجري تسويغ الدفاع عن الاستبداد الذي كان دوما هو المرتكز الأخطر لكل شكل من أشكال الهيمنة والمطامع الأجنبية، وتحقيق مآربها على أرض الواقع.

إنّ جيل الشبيبة في سورية، في اليمن، في ليبيا، في تونس، في مصر.. في فلسطين والعراق وفي كل قطر من أقطارنا العربية والإسلامية، ينطلق من هذه الحقائق البدهية في ثوراته، والجوهرية الأساسية في بناء مستقبله.. ولهذا تتشابه الثورات وتتعانق، وينطلق منها في تصوراته.. فيتّحد داخل الحدود القطرية وعبر الحدود ويتحرك، وهي التي تحدّد نوعية تطلعاته.. فتعلنها الهتافات واللافتات، وتنسكب من أجلها دماء الضحايا وتتردّد في الأكوان شكاوى المنكوبين.

ليس هذا عنصرا جانبيا في صناعة المستقبل، فصناعة المستقبل رهن بعقول هذا الجيل، جيل المستقبل، وأحاسيسه وإنجازاته وتلاقي طاقاته على مسار مشترك، ويستحيل على القتلة المجرمين الذين يفتكون بالأطفال والناشئة والشبيبة، أن يقضوا على هذا الجيل، الذي نشأ -رغم تسلّط استبدادهم وفسادهم وإجرامهم في كل وسيلة من وسائل التكوين والتوجيه- على غير ما أرادوه في حقبة التاريخ السوداء الملطّخة بوجودهم وبأفاعيلهم، وسيرحلون، راغمين، بمختلف صور الرحيل، وسيصل هذا الجيل إلى كل موقع من المواقع المفصلية لصناعة المستقبل، وقد يخطئ ويصيب، شأن البشر جميعا، إنّما سيبقى العنصر الحاسم في سلامة الاتجاه وحصيلته، مرتبطا بما جمع هذا الجيل على الثورات، وما حاز من خلاله على ثقة الشعوب.. وإن استمرارية تضحيات هذه الشعوب هي الدليل.

 

الثورة.. تغيير تاريخي

إن الحكم على الثورات ما بين "الانتصار.. والإجهاض.. وسرقة الثمرات.." وما شابه ذلك ممّا يتردّد الحديث عنه بأكثر من صيغة، حكم سطحي متسرّع غالبا، ما لم يشمل النظرة المتعمّقة كعمق طبيعة التحوّل الجذري التاريخي الذي نشهده ونعايشه.

ملاحقة أسماء محفوظ وأقرانها.. إشارة تنوّه بأن حصيلة الثورة في مصر لا تتمثل فيما تحقق حتى الآن، بل فيما سيستقر مع الزمن، ربما خلال عقد أو عقدين أو أكثر، وإلى ذلك الحين سنشهد كثيرا من العقبات الصادرة عمّا بقي من آثار لطريقة التفكير والسلوك الموروثة من عهد بائد سقطت رؤوسه وأركانه.. ولا تزال بقايا منها تعبّر عن بقايا تفكيره وأسلوبه..

القتل الهمجي في اليمن.. مقابل السلمية البطولية في ثورته.. إشارة تكشف عن نوعية التغيير الذي تصنعه هذه الثورات، بين ماض استبدادي همجي، ومستقبل سلمي إنساني، وإذا غيّبت لحظةُ المخاض وآلامه آنيّاً ما تعنيه هذه النقلة تاريخيا وحضاريا، فلا ينبغي بحال من الأحوال تغييبها عند النظر في طبيعة هذا التحول الكبير، والتفكير بما ينبغي صنعه في الفترة الحالية..  ليبلغ مداه بأسرع ما يمكن مستقبلا.

الإرهاب الاستعراضي عبر الإهانات العلنية في الشوارع وتصويرها، وتسليم الأجساد المشوّهة بعد التعذيب والقتل في المعتقلات مع الإدراك المسبق أنّ الصور ستعمّم المشهد في كل مكان، كما يجري في سورية يوميا بعد أن كان في بداية الثورة "صورا انفرادية صارخة".. هو ما جعل المحاولات اليائسة لقمع الثورة الشعبية في سورية تمثل أقصى الدرجات التي تصل إليها الغرائز الهمجية لكائن مخلوق فقد إنسانية الإنسان، وجسّده الاستبداد القمعي الفاسد.

لهذا بالذات يمكن القول في إطار تكامل ثورات جيل المستقبل مع بعضها بعضا: إن انتصار الثورة الشعبية في سورية بالذات، سيكون هو المفصل التاريخي الحاسم في التحول الجذري الشامل للوطن في سورية وخارج حدوده، فالهزيمة هنا ليست هزيمة "نظام مدجج بالأسلحة التقليدية" بل هي هزيمة العنصر الهمجي المسلّح بأبشع المواصفات التي يقوم عليها مثل ذلك النظام، وانهياره هو انهيارها، وانتصار الثورة عليه، يعني انتصار جنس الإنسان، وإنسانية الإنسان، وانتصار إنسان المستقبل.

نبيل شبيب