رؤية – تعاملنا مع تاريخنا

لا توجد أمّة من الأمم إلا وفي تاريخها صفحات بيضاء ناصعة وأخرى سوداء قاتمة. وكلّ أمّة تحرص على حاضرها ومستقبلها، تعمل بصورة طبيعية تلقائية مشروعة، على استلهام الإيجابيات وتجاوز السلبيات في التعامل مع تاريخها، ليكون مصدر قوّة في واقعها وتطلّعاتها المستقبلية، وهذا ما يتحقّق وجدانيا عبر الميادين الثقافية، أدبا وشعرا وفنّا، وخاطرة وخطبة وندوة، مثلما يتحقّق عقلانيا عبر الدراسات والبحوث العلمية والمنهجية، لتلتقي حصيلة القراءة الموضوعية ونتائجها، مع حصيلة القوّة الدافعة التي يصنعها التعامل الوجداني مع التاريخ، وتنعكسا معا في حياة الأمّة، وتكوين شخصيتها، عبر حياة أفرادها وتكوين شخصيتهم.

 

ترف فكري جائز؟ – انتحار تاريخي حضاري – صلاح الدين مثالا – بين جلد الذات والثقة بالنفس

 

ترف فكري جائز؟

إنّنا -كالأمم الأخرى- نحتاج إلى الارتباط الوثيق بتاريخنا، وبما صنعه من ثوابت في حياتنا، وهذا في كافة الظروف والأوقات الاعتيادية، وبما يشمل توازي النظرتين الوجدانية والمنهجية في قراءته، ونحن أحوج إلى ذلك في المرحلة الخطيرة التي نعايشها، لا سيّما وأنّ جانبا كبيرا ممّا نحن فيه الآن، من انهيار وتمزّق وضعف، يعود إلى حملات عدائية سابقة، خارجية وذاتية، استهدفت على امتداد عقود ماضينا التاريخي، طعنا وتشويها، أو مبالغة وتقديسا، أو تفسيرا خبيثا ملتويا خارج نطاق أيّ منهج موضوعي.

على النقيض من ادّعاءات تقليدية بأنّ المطلوب آنذاك أن يكتسب تعاملنا مع تاريخنا النظرة المنهجية الموضوعية الناقدة للذات، القائمة على الدراسات والبحوث، البعيدة عن التحزّب والتعصّب، فإنّ معظم تلك الحملات لم يعتمد على "منهج علمي"، قدر ما اعتمد على أساليب إنشائية، ومحاولات التأثير على العواطف والغرائز، في إطار كمّ كبير متراكم من الإنتاج في ميادين الأدب والشعر والفنّ والخطابة وغيرها، مقابل نسبة محدودة من الإنتاج الذي اعتمد بالفعل أسلوب الدراسة والبحث، فأخذ مكانه على هذا الصعيد، بغضّ النظر عن تقويم مضمونه ونتائجه، والقبول بها أو رفضها بأسلوب علمي أيضا.

وكان يُنتظر أن تنقطع تلك الحملات شبه الانتحارية ثقافيا وحضاريا داخل صفوفنا، أو أن تهدأ على الاقل، بعد أن بلغت الأخطار الخارجية مبلغها، وبعد أن ظهر للعيان أنّ في مقدّمة ما تستهدفه هو العمود الفقري لتكويننا الحضاري، المرتبط بتاريخنا عقيدة وفكرا وثقافة.

في مواجهة ما يجري من تطوّرات وأحداث لا ينبغي اعتبار تشويه تاريخنا، طعنا أو تقديسا، وكأنّه جنحة بسيطة، أو ترف فكري جائز، فنحن لا نعايش أوضاعا اعتيادية تحتمل حتى التجاوزات الجزئية، وما يعتبر من قبيل "الترف الفكري" في الأحوال الاعتيادية يتحوّل في مثل ظروفنا وأوضاعنا إلى مشاركة في جريمة التخاذل عن التعامل الحيّ مع الأحداث الرهيبة الجارية، وقد ساهمت الحملات السابقة في اصطناع فصام نكد يحميه منطق التسلّط، للفصل ما بين ماضينا وحاضرنا، والمعطيات الضرورية لبناء مستقبلنا.

 

انتحار تاريخي حضاري

لو أنّ نقد أسلوب تعاطينا مع التاريخ ومع عمالقة صنّاع أحداثه في الماضي، يأتي في صيغة دراسات تتحدّث عن الإيجابيات وعن السلبيات، وعمّا ينبغي استخلاصه من فوائد ودروس، لكان هذا أمرا طبيعيا مقبولا، في كل وقت وظرف، وليس صحيحا ما يزعمه بعض الأقلام، من أنّ علينا أن نكون منهجيين بدعوى أنّ الأمم الأخرى -لا سيّما المتقدّمة- لا تصنع ذلك، وهذا أحد أسباب تقدّمها؛ فهذا زعم يراكم عددا من الادّعاءات الباطلة فوق بعضها بعضا!

١- إنّ حجم النقد الذاتي في كتب التاريخ ذات المنطلق الإسلامي، أكبر بكثير منه في التأريخ من منطلقات أخرى، ومثال ذلك التعامل العلماني مع "كمال أتاتورك" والمساس به.

٢- إنّ الأمم الأخرى لا تتردّد قليلا ولا كثيرا عن التركيز على "القليل" من المشاعل في تاريخها القديم، ولا عن "تجميل" الكثير ممّا يمكن اعتباره "جرائم تاريخية" وليس مجرّد زلات تاريخية. 

٣- إنّ بعض ما يبرز معنى تمجيد البطولات في تعاملنا معه من الأحداث التاريخية، كمعركة عين جالوت أو معركة حطين، يجد من التقويم في أيّ دراسة منهجية علمية، تقديرا قد يفوق ما يذكره الشعراء والأدباء وتستشهد به الخطب الحماسية، فقد كانت تلك الأحداث من قبيل المفاصل التاريخية الكبرى في مجرى الحياة البشرية عموما.

 

يضاف إلى ذلك أنّ كلّ مقارنة منهجية بين تاريخنا وتاريخ أمم سوانا، تبيّن بموضوعية أنّ حجم البياض في سجلّنا أكبر بكثير، ولا ينفي ذلك وجود صفحات سوداء أيضا، لكنّ العبرة في مثل تلك المقارنات هو الحصيلة النسبية وليس الكلام القائم على التعميم.

ولنأخذ الحروب مثالا، فمع كلّ التهويل من شأن ما ارتكبه بعض القادة والزعماء على مرّ القرون في تاريخنا الماضي، ما عرفت أمّتنا مثل ما عرفته أوروبا مثلا من حروب المائة عام، والثلاثين عاما، بل إنّها لم تخرج في أيّ فترة من فترات تاريخها على امتداد أكثر من ألفين وخمسمائة سنة من أتّون الصراع، بدءا بالرومان واليونان والجرمان وحتى الحربين العالميتين، بما في ذلك الحروب الاستعمارية فيما بينها وضدّ الشعوب الأخرى.

وما عرفت أمّتنا شيئا يمكن مقارنته -مثلا آخر- بما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية منذ ولادتها على إبادة الهنود الحمر الجماعية، إلى حربها الأهلية، وحتى حروبها الاستعمارية في القارتين لتخرج بعد ذلك إلى ما تمارسه منذ منتصف القرن الميلادي العشرين على المستوى الدولي، ما بين محطات هيروشيما وفييتنام والعراق، ويمكن ذكر ما يشابه ذلك في تاريخ الهند والصين واليابان وروسيا وغيرها.

ليس المقصود هنا تعداد شيء من ذلك كذريعة، بل لفت الأنظار إلى ما يعنيه طعن بعضنا من داخل صفوفنا في ماضينا التاريخي، ولا يكاد يوجد في الأمم الأخرى مفكّرون ومثقفون وأدباء وشعراء يمارسون عملية انتحار تاريخي وحضاري من قبيل ما تمارسه أقلام بعض أهلنا منذ أواخر العهد العثماني إلى الوقت الحاضر.

 

صلاح الدين مثالا

نصيب "صلاح الدين" كبير فيما تخطّه أقلام التشكيك، وقد شهدنا استهداف عهده المتميّز في مواجهة الحروب الصليبية، حتى بات مادّة من موادّ أفلام سينمائية وكتب روائية، عملت على تشويه سيرته، إلا نادرا.. واستهدف التشويه:

١- أن يجعل من القائد المسلم "الكردي" بطلا قوميا عربيا.. مع أنّ عهده لم يعرف القوميّات أصلا، فضلا عن تعصّب قومي!

٢- أن يهبط به إلى مستوى مجرم حرب.. مع أن المؤرخين الغربيّين أقرّوا بعدله بدرجة لم يعرفوها فيما بينهم أو تجاه المسلمين!

٣- أو أن يتّهمه، لتبرير شعارات "السلام خيار استراتيجي وحيد" بأنّه لم يتردّد عن عقد اتفاقيات السلام مع الصليبيين، ولا يخفى كيف تخلط تلك الاتهامات بين المغزى التاريخي لهدنة عسكرية يقرّرها المنتصرون وتسبقها انتصارات وتتبعها انتصارات، وما تعنيه "اتفاقات سلام" مزعوم حديثة، تنعقد بعد هزائم عسكرية، فيخضع للقبول بها أو يتهافت عليها، المقصّرون ابتداء في مختلف ميادين الإعداد العسكري وغير العسكري!

٤- بل يوجد في بعض الكتابات الحديثة ما يتجاوز ما صنعته المصادر الغربية نفسها -إلا قليلا- في التعامل مع صلاح الدين، وإن التزم كثيرون بأسلوب منهجي، يشابه ما ابتكره علماء مسلمون أقدمون، ممّن وضعوا (علم الرجال) و(الأسانيد) و(كتب التاريخ الأولى) كالطبري وابن الأثير وسواهما.

 

أصبحنا للأسف نواجه حملات التشكيك داخل صفوفنا حتّى في فترة تصعيد الهجمة العدوانية المتصاعدة على محاور حضارتنا وثقافتنا، فنفتقد قدرا من النزاهة يوازي ما بدأنا نرصده حديثا لدى فريق من الغربيين، كما كان قبل سنوات في حملة فكرية وثقافية في أوروبا، أفضت إلى إعلان (اعتذار جماعي) للعرب والمسلمين عمّا كان في الحقبة الصليبية، وتضمّنت نشر أفلام وثائقية عنها، واعتمدت أقوال المؤرّخين المنسية أو التي كانت المناهج المدرسية تتجاهلها من قبل، لتؤكّد الحصيلة سماحة الملك العادل مع الصليبيين، ودموية حملاتهم ضدّ المسلمين وبين بعضهم بعضا.

 

بين جلد الذات والثقة بالنفس

من العسير أن نجد تفسيرا لسلوك أفراد ينتمون في الأصل إلى دائرتنا الحضارية، تاريخا ولغة ونشأة وواقعا ومصيرا، وهم أشدّ حرصا من "العدوّ" على استخدام معاول الهدم لمصادر القوّة لدينا. وليس صحيحا ما يستندون إليه من مزاعم لم توضع موضع التمحيص والدراسة قطّ، كالقول إنّ المصادر الغربية أصدق مضمونا وقد يضيفون إليها مصادر التغريب لدينا.

إنّ المثال المشار إليه بشأن محاولة تقويم الطرح الغربي لحقبة الحروب الصليبية، يعني أنّ الغربيين أنفسهم، لا يزعمون لمصادرهم وكتبهم ما يزعمه لها "المتغرّبون"!

المشكلة ليست مشكلة نسبة الصواب والخطأ في المصادر، بل مشكلة انبهار عتيق، تولّدت عنه مقولات عشوائية، باتت تُستخدم وكأنّها بدهيات مسلّم بها، أو نتائج سبق إثباتها.

ويذكر كاتب هذه السطور يوم كان يتحدّث في إحدى الندوات عن أوضاع المسلمين في (يوغوسلافيا) قبل تفكّكها وانهيارها، فأورد أنّ المصادر الغربية -ومنها موسوعات وكتب إحصائية رسمية مرجعية- تقول إنّ عدد المسلمين في يوغوسلافيا في حدود مليون ونصف المليون، بينما يقول مؤرّخون مسلمون معاصرون، مثل المؤرّخ الكبير الأستاذ محمود شاكر (رحمه الله)، إنّهم في حدود خمسة ملايين (آنذاك).. وقلت في تلك الندوة:

"يصعب عليّ تصديق ما يقول به المصدر الإسلامي، مقابل هذه المصادر، وجميعها كتب علمية لها قيمتها وتقوم على دراسات وتقديرات منهجية لدى الغرب، وأقصى ما أستطيع الأخذ به هو رقم تقريبي بين الرقمين!"

ثم سقط الاتحاد اليوغوسلافي، وتبيّن فجأة أنّ محاولات التهوين -غير الأمينة علميا ومنهجيا- من شأن تعداد المسلمين، أي ما يوصف بالعامل الديموغرافي في صناعة أحداث التاريخ، أكبر بكثير وأوسع في ممارسات الغربيين، من ممارسات التهويل من شأنهم من جانب بعض الأقلام الإسلامية.

 

إنّنا في حاجة إلى قدر كبير من الجهود لاستعادة الثقة بأنفسنا، وتاريخنا، ومصادرنا، ومفكّرينا، وكتابنا، فقد نجحت العقود الماضية في زعزعة هذه الثقة إلى حدّ كبير، وعندما يبدأ المرء بالتشكيك في نفسه، وفي تاريخه، وفي قدراته الذاتية، يصعب عليه دون ريب الخروج من (الوهدة الحضارية) التي وقعنا فيها، سيّان هل آثرنا لذلك أسلوب المواجهة ضدّ من يواجهنا بالقوّة والهيمنة، أم أسلوبا سلميا مع مَن لا يزيدهم الأسلوب السلمي إلا إمعانا فيما يرتكبونه بحقّ بلادنا وشعوبنا وقضايانا.

إنّ عدم الإغراق في الحماسة للتاريخ مطلوب بقدر، ولكنّ المطلوب أيضا عدم الإغراق في التسليم بما يتردّد في الغرب (أو في بلادنا) دون دليل عن أحداث التاريخ الإسلامي وشخصياته المعروفة. ولا غنى عن الإحساس العميق بوجود قدر كافٍ من الثقة بأنفسنا وتاريخنا وببعضنا بعضا، لنستطيع التعامل القويم مع تاريخنا ومع حاضرنا وتطلّعاتنا المستقبلية. وإذا كان دأب بعض الأقلام هو التشكيك والتخذيل، فلا ينبغي أن يملّ أصحاب الأقلام المخلصة، وأن يعملوا عملا دؤوبا على نشر الثقة بالنفس بصورة خاصة.

نبيل شبيب