رؤية – تركيا.. إلى أين؟

القضية أكبر شأنا وأعمق حصيلة من مناوشات ديبلوماسية متزايدة مع أوروبا ومتصاعدة تدريجيا مع أمريكا، فمنذ إخفاق المحاولة الانقلابية في تركيا في منتصف ٢٠١٦م تحولت تطورات السياسات الخارجية التركية تجاه الغرب، والغربية تجاه تركيا، إلى التوتر العلني بعد التوتر وراء ستار رقيق من بقايا المراعاة الديبلوماسية والمصلحية. وبدأت في هذه الأثناء مرحلة تالية في مسار طويل نسبيا، وتميزت بالتصعيد في لهجة الخطاب والتعامل اليومي بين تركيا والقوى الغربية، مقابل تطوير متسارع للعلاقات التركية مع روسيا وإيران.

لا تقتصر العوامل الأساسية وراء هذه التطورات على متطلبات التعامل المباشر مع تطور الأوضاع في الجوار العراقي والسوري، أو مع تفجير الأزمة الجديدة في مجلس التعاون الخليجي، فهذه أجزاء من نسيج يحبكه تطور العمل على تموضع تركيا عالميا من قبل وصول حزب العدالة والتنمية ورجب طيب إردوجان إلى السلطة، ولهذا لا ينبغي التعامل مع التطورات الجديدة وكأنها وقتية أو عابرة أو مجرد خطوات تكتيكية كما يقال، يمكن أن تليها خطوات تكتيكية أخرى في اتجاه مضاد.

. . .

تموضع تركيا عالميا مسألة تركية وجودية من الأصل، بدأت تفرض نفسها على السياسات التركية والغربية فور سقوط المعسكر الشيوعي ونهاية الحرب الباردة، فآنذاك لم يعد موقع تركيا "الأطلسي" يصلح للاستمرار كما كان.

المحاولة الأولى في عهد سليمان ديميريل، وانطلقت من رؤية "خدمية أطلسية جديدة" فيما عرف بالدوائر الخمس.

آنذاك بدأ الانسياح الغربي شرقا على حساب مناطق نفوذ موسكو الشيوعية سابقا، وفقدت تركيا موقعها "الأطلسي" المتقدم على الجبهة "الجنوبية الغربية" في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وبدأ الاهتمام الغربي يتركز على مواقع جغرافية جديدة في البلطيق والقوقاز وشرق أوروبا عموما.

إلى ذلك الحين كانت تركيا غارقة في الموروث "العلماني المتغرب" من مشروع أتاتورك، فعرض سليمان ديميريل على واشنطون، وهي في أوج إعادة ترتيب البيت الأطلسي للانفراد بزعامة عالمية، أن تبقى تركيا أداة أطلسية ولكن لضبط الأوضاع الأمنية والسياسية برؤية أطلسية في (١) البلقان (٢) وسط آسيا (٣) القوقاز (٤) حوض شرق البحر الأبيض المتوسط (٥) المنطقة العربية ضمن مسمّى "الشرق الأوسط".

أخفقت المحاولة.. إذ مضى حلف شمال الأطلسي بزعامته الأمريكية في طريق آخر يزيد واقعيا من تخفيف الاعتماد على تركيا وهي القوة العسكرية الثانية في الحلف، ويبدو أن المخاوف من "مستقبل" تركيا بدأت آنذاك، أي قبل أربكان وإردوجان، كما تشهد توجهات "عابرة" تضعف منطلقها العلماني الأطلسي القديم، كما هو معروف من سياسات عدنان مندريس وتورجوت أوزال.

المحاولة التركية الثانية في عهد نجم الدين أربكان ضمن رؤية "إسلامية بديلة" وعبر الدعوة لتأسيس "مجموعة الثمانية الإسلامية"، وكان الإخفاق مبرمجا أيضا، إذ لم يكن يوجد نسيج "استراتيجي وأمني وسياسي" إلى جانب قضايا التنمية والتطوير المطروحة للتنسيق فحسب ما بين دول مختلفة اختلافا جذريا في سياساتها الأمنية والدولية، وهي تركيا ومصر وإيران والسعودية وماليزيا ونيجيريا وإندونيسيا وبنجلادش، وبقي المشروع الطموح مجرد هيكل تنظيمي ضخم دون مضمون فاعل.

. . .

عالم التكتلات الكبرى المعاصر لا يتسع لدولة تتحرك بسياسات لا تستخدم لغات التكتل والمحاور والتحالفات وما تنطوي عليه من تقاطعات وتناقضات وتوازنات على صعيد المصالح. في هذا الإطار كان اندلاع الثورات الشعبية في الجوار العربي مؤثرا على السياسات الخارجية التركية في اتجاهين متناقضين:

الأول.. مخاطر سلبية للانزلاق في "سرعة التغيير الثوري" بديلا عن "سرعة بطيئة نسبيا" في التحولات الجارية تدريجيا على خارطة السياسات الخارجية التركية.

الثاني.. فرصة إيجابية لتوليد تكتل جديد على المستوى التركي-العربي

هنا كان التركيز على أحد هذين المحورين بيد صناع القرار في تركيا، ويبدو أن محاولة الجمع بين هذا وذاك لم تكن القرار الصائب، لا سيما وأنه لا يوجد قرار سياسي خارجي "مستقل تماما"، فالقرار التركي -كسواه- معرض لمفعول ما يقع من تطورات في الجوار، وهي متنوعة متقلبة وسريعة، تصنعها سلبا وإيجابا وتبدّلها قوى محلية (القوى الثورية وما عرف بالمعارضة السياسية، وكذلك الأنظمة الاستبدادية) أو تدفع إليها قوى دولية (الغرب وروسيا) وقوى إقليمية أخرى (إيران والسعودية تخصيصا) فكان ما يجري يضغط على صانع القرار في تركيا للتعامل معه، عبر محاولات احتواء المخاطر ومحاولات التأثير المباشر.

. . .

لقد كان من العلامات الفارقة بين عهدي أربكان وإردوجان (ليس المقصود "الزعيمين" بل القوى التركية بزعامة كل منهما) أن العهد الحالي تخلى عن "أسلوب الصدمة" في سياسة العهد السابق (القصير نسبيا) وأخذ بأسلوب التدرج، وموازنة المصالح، ومرحلية التغيير، وجميع ذلك يتطلب سياسات هادئة، واضحة المعالم، متينة البنيان.. جامعة لاحتياجات ميادين عديدة، مالية، اقتصادية، معيشية، اجتماعية، أمنية، عسكرية، ثقافية، خارجية وداخلية.  إن تطوير العلاقات الخارجية في عالم التكتلات المعاصر، يمثل واقعيا قطعة فسيفساء واحدة مرتبطة بسواها في لوحة كبيرة، وهذا ما كان في بنية مسيرة النجاح التي حققها حزب العدالة والتنمية بقياداته وقواعده خلال أعوام ما قبل ثورات الربيع العربي.

تبدلت سرعة صناعة القرار في تركيا وسرعة تنفيذه وتعدد مواقع تأثيره ودرجة التعقيد في تشابك الميادين المتعلقة به، تحت تأثير عوامل "خارجية" منها من صنع مسار الثورات الشعبية، ومنها من صنع التحرك الدولي والإقليمي المضاد لها، ومنها ما يندرج تحت عنوان الاستهداف المباشر لتركيا كيلا تكون نموذجا لسواها من حيث "التمرد" على ربطها بتكتل دولي مهيمن عالميا.

. . .

تركيا تعبر حاليا مرحلة من مراحل تموضعها العالمي، وهذا ما يشمل تطور مسار علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وعلاقاتها بالقوى الأخرى كروسيا وإيران والبلدان العربية، وهي مرحلة من مسيرة طويلة الأمد، وينبغي التعامل معها من هذا المنطلق، وهذا ما يسري على القوى الثورية أو القادرة على العمل منها حتى الآن، أما تقويم السياسة التركية بحد ذاتها فمرتبط بحصيلتها عندما تتضح للعيان وتثبت على أرض الواقع، وليس ببعض النتوءات السلبية أو النجاحات المؤقتة، ولا ببعض الوقائع المثيرة كما كان في مسلسل الحملات الإعلامية وإجراءات استعراض حدة الخلافات الآنية، التركية-الأوروبية، أو مع حكاية "التأشيرات" وتداعياتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

نبيل شبيب