ــــــــــ
(نشرت هذه الرؤية التحليلية في العدد الثالث من مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري، وفي الإصدارة السابقة من مداد القلم نهاية تموز / يوليو ٢٠١٨م)
* * *
مقدمات
قبل الدخول في صلب الموضوع، نرصد أن الإعلام لم يعد كما كان.. ولا العمل للإسلام كما كان.. ولا واقع العالم والعصر كما كان.. ولكن ما نزال، أو ما يزال كثير منّا، يتعامل مع الإعلام، باسم العمل للإسلام ودعوته، بأساليب متخلفة (معذرة) نخطئ إذا اعتبرناها مستمدّة من الإسلام نفسه.
ينعكس ذلك في صورتين متقابلتين:
(١) ممارسات إعلامية (حرفية.. أو متعدّية على المهنة!) تحمل عناوين إسلامية، فقدت مفعولها وضعف تأثيرها على الفئات المستهدفة، إذ لا تنسجم مع رسالة “الإعلام العام” وأهدافه المتنامية، ومتغيرات الظروف المحيطة به، ولا ترقى إلى مستوى طموحات ما ينبغي أن يصنعه من يعمل للإسلام في عالمنا هذا وعصرنا هذا.
(٢) توقعات غير موضوعية تقيس العطاء الإعلامي تحت عنوان إسلامي بتطلعات تعجيزية، أو لا تندرج في قائمة أهداف وسيلة “إعلامية إسلامية” بعينها، فتخيب آمال أصحاب تلك التوقعات وتنتشر الانتقادات، ناهيك عن انتقادات “جاهزة” ينشرها من لا يقرأ ولا يطلع ويتابع أصلا.
هذا.. ونؤكد جميعا “أهمية الإعلام العام”.. ونعلم ما يعنيه وبأدواره المؤثرة في صناعة الحدث.. إيجابا وسلبا، وهذا ما أصبحنا شهودا عليه، وذقنا طعمه بنكهة الدماء والآلام، والتضحيات والإخفاقات، مرة بعد مرة، ومن ذلك ما واكب مسارات أحداث طاحنة، أثناء تدفق أمواج مقاومة الغزاة، والانتفاضات التحريرية، ثم الثورات الشعبية العربية، وما قابلها من سيول التحرك الجارف المضاد محليا وإقليميا وعالميا.
يكفي هذا – وبعضنا يؤكد ضرورة “المراجعات” عموما – لبيان أهمية النظر في معنى ما بدأ به هذا المقال من “ادّعاء” وجود انفصام في “الإعلام الإسلامي” بين ما نصنع ونتوقع فعلا.. وما ينبغي أن نصنع ونتوقع. ولا ينفصل المطلوب هنا عن نسيج جهود كبرى ضرورية للارتقاء إلى مستوى وجودنا أمام بوابة دورة حضارية جديدة، نزعم أننا نحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن الدفع بعجلاتها في الاتجاه الصحيح.
ولا يكفي للنظر فيما سبق سبك “مقال”.. وإن قيل إن البلاغة في الإيجاز، وكان الحديث مقتصرا على قسط محدود من جانب جزئي ينوّه إليه مطلع المقال، من أصل قضية أكبر وأوسع، تتطلب دراسات محكمة وبحوثا استقصائية وإبداعا في التفكير والتحليل والاستنتاج وصياغة اقتراحات ومبادرات عملية.
ومن الضروري التنويه أن الفقرات التالية تحت عنوان (حرية القلم الإعلامي في وسيلة إعلام إسلامية) لا تتعرض:
– لإجازة نشر الموادّ في نطاق إعلام تخصصي عبر آلية منهجية علمية دون إفسادها بخلط المعايير العلمية بموقف ذاتي تجاه “رأي” مخالف تشمله المواد المعنية..
– أو لاعتبارات استثنائية لشخصية طبيعية أو اعتبارية تشغل موقع الناطق الرسمي باسم جهة سياسية أو تجارية أو ما شابه ذلك..
– ولا تتعرض لما يسمى “ميثاق شرف” إعلامي ببنود قيمية وأخلاقية..
لجميع ذلك وأشباهه قواعد دقيقة ليست موضع الحديث هنا بصيغة خواطر معدودة تتناول إجازة المعلومة العامة والرأي العام في وسيلة إعلامية عامة، ذات عنوان إسلامي، والسؤال:
كم ذا نعلن من منطلق إسلامي رفض تقييد الإعلام في بلادنا تخصيصا عبر مقص الرقيب ووسائل أخرى، ومن دواعي المصداقية القول إن الرقابة المسبقة على حرية الكلمة في إنتاج إعلام إسلامي موجودة، فكيف نلغيها ليكون إسلاميا فعلا، ويكون إعلاما بحق؟
أين الخلل؟
يعتذر كاتب هذه السطور إن أطال في المقدمات.. ولكن يوجد ما يدفع إلى ذلك من احتمالات “سوء فهم أو سوء تفاهم أو حساسيات ما” فيحاول وضع إطار دقيق قدر الإمكان. ومن ذلك الإقرار أن السؤال المطروح يتجاوز مسائل تسبقه موضوعيا وتحتاج إلى إجابات، مثل البحث عن مقاربة فيما يطرح من صياغات مختلفة لتعريف المفردات الواردة “الرقابة، حرية الكلمة، الإعلام، الإعلام الإسلامي”، وأهم من ذلك:
ما الذي يصلح لترجيح الأصحّ في تعريف هذه المفردات وتطبيقها، بمعيار ما هو أقرب إلى الصواب موضوعيا وأكثر إقناعا على أرض الواقع؟
هل يصلح لذلك الاعتماد على المتخصص بالشريعة أم المتخصص بالإعلام؟ وعبر الاستشارة أم القرار؟ ولئن اجتمع الطرفان على أمر، ما الذي نحتاج إليه في رفد الموضوع من خارج إطار تخصصات الشريعة والإعلام، أي من قطاعات التربية والسياسة وعلم النفس والاجتماع وفنون الإنتاج الإعلامي وملحقاته وتقنياتها، وما شابه ذلك، فنحن نعلم أن عالمنا تتداخل فيه التخصصات وتتكامل، مضمونا ومفعولا!
إذا تجاوزنا مسألة حق كل وسيلة إعلامية أن تستكتب من تريد وأن تتعاقد تحريريا مع من تريد، فإننا نعلم بوجود رقابة مسبقة على هؤلاء أيضا، وحدها الأدنى هو تنفيذ قرار يجري اتخاذه من جانب جهة معتمدة لذلك، تحكم على تعبير إعلامي مكتوب أو مصور قبل نشره (للتذكير: الحديث هنا عن إعلام الرأي).
من جوانب الإشكالية أن غالبنا لا يدرك أو لا يتبنى قاعدة تقول باستحالة انفراد “شخص” أو “مجموعة” أو “تخصص” بعينه في احتكار صواب الحكم على قضية ما (والإنتاج الإعلامي العام يشمل مختلف القضايا) بعد أن تحول عالمنا إلى “قرية صغيرة” في دنيا الاتصالات، وإلى “دار مشتركة” تجمع بين أبعادها الستة ما لا يُحصى من التخصصات المتفرعة والمتشابكة.
قد يكون “محتكر الصواب” محقا من الناحية الشكلية، أي داخل نطاق زاوية تخصصه وفضاء تواضعه، ولكن لا يفيد ذلك ما دام الموضوع المعني أوسع نطاقا بمضمونه وتأثيره من أن يُحبس وراء جدران تخصص بعينه.
هذا مجال يحتاج للتأمل بما يتجاوز المطلوب في هذه الخواطر، وهو مجرد لفت الأنظار إلى مؤشرين اثنين بمثابة “التمهيد” لمن يُرجى أن يعملوا على استنباط محددات مدروسة لإلغاء الرقابة المسبقة على حرية الكلمة في إنتاج إعلامي إسلامي، ليكون إعلاما بحق، ويكون إسلاميا فعلا.
المؤشر الأول:
نعايش على أرض الواقع أن أصناف الرقابة المسبقة -ومن أدواتها: السماح.. والحظر.. والتعديل.. والحذف- قد فقدت مغزاها وجدواها، وأخفقت وسائلها التقليدية وغير التقليدية، الشديدة والناعمة، المتبعة عموما قبل انطلاق الثورات الكبرى المتتالية في عالم الاتصالات والتواصل، ثم ما أضيف إليها حتى اليوم.
بتعبير آخر: لم يعد يوجد في عالمنا وعصرنا أي جدار -وإن كان من قبيل جدار ذي القرنين.. قبل اختراع الطائرات والصواريخ- يمكن اعتماده لمنع تحليق “الكلمة” فوق الأسوار أو منع تناقل “التعبير” عموما، بالكلمة والصورة والسلوك.
بل ارتكبت جرائم الاستئصال بالقتل أحيانا وبالاعتقال والتعذيب والتشريد أحيانا أخرى، واستهدفت كثيرا ممن ينتزعون لأنفسهم حرية الكلمة الإعلامية انتزاعا، من محترفين وهواة، كما ارتكبت جرائم تدمير وسائل التعبير والنشر “المتمردة” قصفا مباشرا أو خنقا ماديا وحصارا.. ولكن بات مسلسل هذه الجرائم يؤدي إلى نقيض المقصود منه، فهي تضاعف أعداد “الإعلاميين المتمردين” وتثير مزيدا من “الإعلام” حول قضية “الحرية الإعلامية” التي دفعت الرغبة في وأدها إلى ارتكاب تلك الجرائم.
لم تعد حتى الجرائم المباشرة قادرة على “وقف” مسيرة تحرر الإعلام من قيود الحظر بمختلف أشكالها:
– قيود تقليدية من جانب السلطات في كيانات مارقة تسمي نفسه “دولا” أو في دول تزعم احتكارها هي لتطبيق الحريات الإعلامية ثم لا تتردّد عن تقييدها وتوجيهها بأساليب الهيمنة المادية..
– وقيود غير تقليدية أخطر شأنا، إذ يستخدمها كل ذي سلطة ما، وتعتمد على توظيف آليات “حريرية الملمس”، تزرد شبكات حديدية من رقابة ذاتية، أو من مبررات مبتكرة، لعمل “مقص الرقيب” فتلتقي في نهاية المطاف مع ممارسات السلطات الاستبدادية وأغراضها.
المقصود هنا هو الاستناد في أي عملية حظر إلى ممارسة الوصاية على أفكار.. وعادات.. ومعتقدات.. ومسلّمات وبدهيات موهومة.. تقديسا أو تدنيسا.
إن الرقابة المسبقة لحظر حرية الممارسة الإعلامية تعايش على أرض الواقع انهيار دعاماتها، رغم ما نشرته من أجواء الرعب من المرهبات ومتاهات التضليل في حمأة المرغبات، وقد فقدت تلك الرقابة المسبقة جدواها إن لم نقل انعكس مفعولها.. ولهذا على الأقل:
لا ينبغي أن ينزلق أي عمل إعلامي رصين يحمل عنوان “الإسلام” إلى ممارسة ما لا جدوى منه، وما أصبح ضرره أكبر من نفعه.
للتذكير مرة أخرى.. المقصود هنا هو “الرقابة المسبقة” وليس معايير مدروسة وآليات فعّالة، تنطوي على قدر كافٍ من ضمانات النزاهة والعدالة، للمتابعة ثم المحاسبة لأي عطاء إعلامي بعد نشره.
المؤشر الثاني:
الإعلام تحت عنوان إسلامي، الحريص على الكلمة الطيبة.. السديدة.. الصالحة.. الخيرة.. الصادقة.. الهادفة.. الملتزمة.. أحق من سواه بالعمل من أجل إنهاء مختلف أساليب الرقابة المسبقة على النشر في الإعلام العام، فهذا أحد المطالب الأساسية تجاه منظومات الاستبداد والهيمنة محليا وعالميا، وهو أحد جوانب تميّز الوجه “الأصيل” لمشاركة الدعوة الإسلامية القويمة في مسلسل المقاومة والانتفاضات والثورات في بلادنا وعالمنا المعاصر، مقابل ما كان من وجوه “دخيلة” هجينة ومستهجنة.
علاوة على ذلك:
لو اتسع المجال لدراسة أو أكثر، فيؤمل أن يصل فريق “اندماجي” من الخبراء المتخصصين في علوم الشريعة وعلوم الإعلام والنشر، مع من يرفدونهم بتخصصات تكميلية مساعدة، إلى ما يثبت، وفق المعايير العلمية، أن مثل هذه “الرقابة المسبقة” لم يكن لها (ولا على مستوى بذور أولية) أيّ وجود نظري أو تطبيقي في العهد النبوي الأول في التعامل مع ما يمكن اعتباره -مع مراعاة اختلاف العصر والمعطيات والظروف والوسائل- صيغة من صيغ الإعلام والنشر.
بل لعلنا نجد في ذلك العهد شواهد من أحداث السيرة تنقض ممارسات الرقابة المسبقة.. أو الحظر والحجر المسبق عموما، ومن ذلك تنويها دون تفصيل:
– اعتراض “المجادلة” وخوضها دفاعا عن حقها في الجدال “العلني” مع من لا ينطق عن الهوى..
– الاعتراض “العلني” أيضا من فتاة لم تُسأل مسبقا بشأن تزويجها بمن طلب يدها..
– شتيمة “يا ابن السوداء” بحضور كرام الصحابة، ثم عدم تلقي عقوبة “شرعية” على ذلك الخطأ في التفكير والتعبير، والاكتفاء في توصيف السبب بأسلوب تربيوي، أنه “خصلة من الجاهلية”..
– الامتناع عن ممارسة العقوبة المستحقة، حتى على منافق تطاول على المقام النبوي وابتغى الفتنة في المدينة المنوّرة وهو يتوعد بأن “يخرج الأعزّ منها الأذل” بعد معركة أحد..
إن الحديث عن ذلك في نطاق مقال قصير هنا لا يقطع باعتبار الشواهد “ممارسات إعلامية” أم لا، بل المرجو منه مجرد الإشارة إلى أمثلة تسمح بدراسة قد تصل إلى نتيجة ينطلق منها كاتب هذه السطور، ومؤداها:
لم يعرف العهد النبوي وجود ما يحظر التعبير بحرية عما يراه الفرد ولو جانبه الصواب، أما إن أخطأ في استخدام هذه الحرية فتعدّى حدودها إلى المساس بحق فرد آخر أو حقوق المجتمع، فآنذاك يسري في التعامل مع ارتكاب الخطأ: العفو التربيوي قدر الإمكان، أو العقوبة المشروعة بقدر الضرورة وفي حدود ما يتناسب مع درجة ذلك الخطأ وضرره.
نبيل شبيب