أثيرت قضية الأكراد في شمال العراق مجددا عبر استفتاء إقليم كردستان العراق، وكان من أبرز تداعياتها ازدياد التقارب بين تركيا وإيران وشموله جوانب عسكرية، وسرعان ما تجدد التساؤلات: أين ذلك من "الصراع" الطائفي باسم الشيعة والسنة في المنطقة؟
لم يعد سهلا اللحاق بالأحداث وتتابعها وتصنيف المحاور الإقليمية وتقلباتها، ناهيك عن رؤية أشمل لا تغيب فيها مشاريع الهيمنة ومشاريع الفوضى في المنطقة. لعل من مفاتيح الرؤية الأشمل، دون تسرّع في الأحكام والاستنتاجات، تثبيت أمرين:
١- كل دولة معتبرة، كتركيا، تتصرف بما يشمل تعديل ممارساتها السياسية، انطلاقا من رؤاها الذاتية ودرءا للمخاطر على وجودها ومصالحها.
٢- إن مشاريع الهيمنة مشاريع سياسية عسكرية مادية، فليس المشروع الإيراني "شيعيا" بل يستغل الشيعة وعقائد الشيعة استغلالا عدوانيا دمويا ويوظفها لأغراضه، وليس المشروع الصهيوني "يهوديا" بل يستغل اليهودية وعقائد اليهود استغلالا عدوانيا دمويا ويوظفها لأغراضه.
ليس هذا "جديدا" ولكن المعاناة وآلامها المتصاعدة، ونشر الفوضى الهدامة الدموية في كل مكان أصبح فوق ما تتحمله العقول والأجساد، فيحجب عن الأنظار المعالم الأساسية الضرورية لمشهد الأحداث وصناعتها ويحجب بالتالي الرؤية الصائبة للتعامل معها.
لمحة من حدث قريب
في مقالة نشرت يوم ١٥/ ٥/ ٢٠٠٨م في موقع إسلام أون لاين، ورد لكاتب هذه السطور تعقيبا على نزول منظمة حزب الله بالسلاح في شوارع بيروت، وعلى انتشار مواقف تقول إن هذا السلاح لم يعد سلاح المقاومة اللبنانية بل سلاح الشيعة:
"بغض النظر عن نسبة الصحة ونسبة الخطأ في هذا الطرح يمكن أن نطرح في البداية سؤالا واحدا: ماذا لو غابت عن الساحة اللبنانية والإقليمية، منظمة حزب الله، وإيران، وسورية، غيابا كليا، كيف سيكون الوضع الإقليمي، العربي والإسلامي آنذاك؟ هل سيصبح قائما عبر الدول الأخرى على سيطرة السنة، وسيادة الإسلام في شؤون الحياة والحكم والتعامل مع القضايا المصيرية؟ وهل ستفتح الأبواب أم نهضة إسلامية تأخرت كثيرة وكان من أسباب التأخير أوضاعنا الذاتية، إلى جانب العداء الخارجي؟"
منذ قامت ثورة إيران، وأسقطت الشاه الصهيوأمريكي قلبا وقالبا، عقيدة وسياسة، سارعت أصوات إسلامية وغير إسلامية إلى تأييدها، وكان لكاتب هذه السطور موقف في كتيب بعنوان "مع ثورة إيران"، وجاء في ختامه التأكيد أن إسقاط الاستبداد وإنهاء الهيمنة الأمريكية موضع تأييد، وأن شعار الثورة المرفوع "لا شيعية ولا سنية" موضع التأييد، وأن أسلوب "رفع الورود في مواجهة الجنود" موضع تأييد.. أما إذا انحرف الاتجاه نحو طرح شعارات طائفية، أو ممارسة سياسية طائفية، فلا يمكن أن يجد التأييد، ولا يمكن أن نقيس المصلحة الإسلامية عبر مواقف الثورة وسياسات صانعيها، وإن اعتبرت نفسها ثورة إسلامية، بل تقاس مسيرة الثورة وسياساتها وصانعوها بالإسلام، فهو المصدر وهو المعيار.
ثم في طهران نفسها، أثناء احتفالاتها بمرور العام الأول على الثورة، كان موقف آخر في كلمة علنية، ينتقد التعامل مع الاستبداد بأسلوب الكيل بمكيالين، وكانت قد ظهرت آنذاك (١٩٨٠م) البذور الأولى للتحالف مع المستبد المتسلط على سورية، أثناء الأحداث الدامية في الأرض السورية، ومنها قصف حماة الذي تزامن مع أيام تلك الاحتفالات.
معالم موقف مطلوب
من البداية كانت سياسة "تصدير الثورة" من الأخطاء الإيرانية الجسيمة، ولفترة طويلة كان الترويج للرؤى الشيعية، العامة.. وليس الفقهية الذاتية وحدها، بل ترويج الرؤى الصدامية مع أهل السنة مباشرة، من الأخطاء الإيرانية الجسيمة. ولكن الواقع الإقليمي القائم الآن في بلادنا العربية والإسلامية، لم يصدر عن نزاع طائفي تاريخي قديم وطويل، ببداياته السياسية وتفرّعاته الفقهية، إنّما تكوّن وانحدر إلى أقصى درجات الهوان والتجزئة والضعف والتخلف، نتيجة سياسات معاصرة يمارسها صانعو القرار، وكانوا من السنة والشيعة، ورفع بعضهم شعار الإسلام ولم ينطلق منه كما ينبغي، أو رفع شعارات أخرى معادية علنا، ومن جوانب تلك السياسات إشعال الفتن الطائفية واستغلالها في وقت واحد.
إن الأمر الحاسم في تحديد مواقع السياسيين والأنظمة والميليشيات في الوقت الحاضر لا علاقة له بالإسلام نفسه ومستقبله، بل في نوعية ممارساتهم هم على أرض الواقع وهل تخدم الهيمنة الأجنبية أو الإقليمية أم تواجهها، وهل تخدم الاستبداد الهمجي الفاسد أم ترفضه، وهذا ما أدركته الشعوب أكثر من النخب، فأيدت إسقاط الشاه ورفضت تصدير الثورة الإيرانية، كذلك أيدت مواجهة منظمة حزب الله رغم وجهها وتكوينها الشيعي للمشروع الصهيوأمريكي، ولم تؤيد توظيف ذلك في خدمة مشروع الهيمنة الإيراني.
التأييد الشعبي لا ينطلق من "مصالح سياسية" بل من رؤية مبدئية مبسطة، أقرب للإحساس بما يجري على أرض الواقع، ولهذا فهو تأييد يتبدل وينقلب إلى رفض ومقاومة، نتيجة تحرك تلك المنظمة المسماة "حزب الله" مثلا، وكذلك أي منظمة سواها، بوجهها وتكوينها الشيعي أو أي وجه وتكوين آخر، من درب مواجهة هيمنة أجنبية إلى خدمة هيمنة إقليمية، أو حتى ذاتية استبدادية مبتدعة، بما يلحق الأضرار المباشرة، بأي فئة من فئات السكان في المنطقة، من مسلمين وغير مسلمين، فكل ما يصيب إحدى الفئات يترك عواقبه على سائر الفئات الأخرى، ويخدم الهيمنة الأجنبية، وإنّ الشعوب في تأييدها ورفضها على هذا الصعيد، أوعى بكثير من جهات سياسية رسمية، أصبحت لها معايير أخرى.
يمكن أن نتحدّث في الشأن الطائفي الكثير، بما في ذلك قضية الموقف المرفوض تجاه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعا، سيّان كيف يعبَّر عنه ومن يعبر.. ونعلم كم هو منتشر تحت عنوان "الشيعة"، إنما لا نغفل أيضا عما رصدناه ونرصده من جانب أقلام، أصحابها "من السنة"، يحذون حذو المستشرقين في التشكيك بالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه مثلا، أو بشيخ المحدثين البخاري مثلا آخر، أو حتى بالسنة النبوية نفسها عموما وموقعها في بنيان الشريعة.
إن الممارسات السياسية الطائفية تستغل الشيعة فتخدم من يمارسها على حساب مستقبل طائفة الشيعة نفسها، وإن الممارسات السياسية باسم السنة تستغل الإسلام وتخدم من يمارسها على حساب مستقبل الإسلام والمسلمين، كما صنع السادات مثلا وهو " يكسر الحاجز النفسي" مع عدو غاصب للأرض، ويقيم ألف "حاجز نفسي وغير نفسي" داخل المنطقة العربية والإسلامية.
ليست الخلافات الكبرى بين السنة والشيعة في ميادين العقيدة والعبادات والمعاملات والتأريخ صغيرة ولا بسيطة ولا يمكن لأحد أن يزعم عدم وجودها، ولكن عندما نطرح السؤال عمّا تتطلبه المصلحة العليا لأهل البلدان العربية والإسلامية ولقضاياهم المصيرية المتفرقة المبعثرة، المعرضة لأكبر الأخطار الخارجية، فهو سؤال مطروح عن كيفية التعامل الصائب الهادف مع تلك الخلافات.
من يؤجّج الخلاف من الطرفين "السياسيين" الآن يطعن في المصلحة العليا للمسلمين وبلادهم ومستقبلهم، ومن يعتبر ذلك مسوّغا ليساهم من جانبه في ردّ الصاع صاعين، وتأجيج الخلاف، يشاركه في طعن تلك المصلحة.. ولا يزيل الخلاف، ولا يحقق "نصرا دينيا" على الطرف الآخر.
الخلاف قائم وسيبقى قائما في المستقبل المنظور، ولم يكن بسيطا ولن يصبح بسيطا في المستقبل المنظور، فليس الأمر أمر تجاهله ولا إنكاره، بل أمر كيفية التعامل معه الآن بالذات، في نطاق التعامل مع مشاريع الهيمنة من جهة والتبعية من جهة أخرى، مع المشروعين الإيراني والصهيوأمريكي في وقت واحد.
المطلوب محاسبة المجرمين على جرائمهم التي ارتكبوها ولا سيما في السنوات الماضية، والمطلوب في الوقت نفسه أن يخرج جميع العقلاء في هذه المنطقة أيا كانت مواقعهم، من مسلمين وغير مسلمين، سنة وشيعة، حكاما ومحكومين، أنظمة ومنظمات.. أن يخرجوا من كل نفق من أنفاق التبعية لأي جهة أجنبية أو إقليمية، ومن مسارات الاستبداد والفساد أيا كانت راياتها، وأن يعملوا جميعا دون استثناء، من أجل إيجاد أرضية مشتركة، تحقق المصلحة العليا للجميع، وتخدم القضايا المصيرية وفق المصلحة العليا للجميع، ويتجاوزوا كل خلاف جانبي وثنائي ومحلي وإقليمي، بما في ذلك الخلاف الطائفي، لجمع الجهود وتعبئتها نحو هدف مبدئي واحد: دفع أخطار الاستبداد والفساد والهيمنة الخارجية والإقليمية، فهي الأخطار الأكبر على الجميع دون استثناء، وهي المدمّرة لبلادنا وطاقات شعوبنا في المستقبل المنظور.
نبيل شبيب