رغم المعاناة.. رغم الهجمة العالمية غير المسبوقة من حيث وسائلها وأساليبها.. رغم موبقات الفرقة بين فئات الشعب الواحد وحتى الفئة الواحدة من كل شعب من شعوبنا.. رغم هذا كله وسواه، لا يزال كثير ممن يشغلون موقعا مؤثرا ولو بقدر محدود يتقلص يوما بعد يوم، يتشبث بما يقول بشأن قيام دولة إسلامية، أو مدنية، أو ذات مرجعية دينية، أو ذات مرجعية علمانية، ديمقراطية الروح والتفاصيل، أو ديمقراطية الآليات فحسب.. وفي صفوفنا من يربط ما يقول بالإسلام كما يراه، أو بالعلمانية كما يراها، أو بسوى هذا وذاك مما تتعدد الأوصاف والتسميات في التعبير عنه.
جدال وأحيانا نزاع إلى درجة القتل والتقتيل أو الإقصاء والاستئصال أو التشريد والإبادة أو ممارسات "التطهير والتدنيس".. هل نعبر فعلا عن مقتضيات مضامين المفردات التي نستخدمها بمناسبة ودون مناسبة؟
ما هي "الدولة الدينية"
"الدولة الدينية" مصطلح فلسفي أسود المضمون والمظهر منذ نشأته الأولى أو منذ تجسيده في مسار التاريخ، فلا يلام الغربيون وأصحاب الثقافة الغربية عند تحذيرهم من إقامة "دولة دينية" وهم يقارنون بين حالات تاريخية صارخة من "العصور الوسطى الأوروبية" وبين حالات معاصرة، كالدولة التي أقيمت عبر الثورة الإيرانية تخصيصا.
لقد كانت النشأة الأولى للدولة "الدينية" عندما دعا القيصر الروماني (الوثني) قسطنطين عام ٣٢٥م إلى عقد مجمع نيقيه (الكنسي) الأول، على خلفيّة ما سُمّي نزاع الأريسيين بشأن عقيدة التثليث. آنذاك بدأت "المؤسسة الكنسية" ترتبط تدريجيا بسلطة الدولة الرومانية القيصرية، ثم انتقلت إليها السلطة بصيغة احتكارية، وتشبثت بها حوالي ١١ قرنا متتالية، هي التي عرفت بالقرون الوسطى الأوروبية.
لهذا ارتبط مصطلح "الدولة الدينية" في تاريخ المعرفة (الفلسفية) الغربية حتى اليوم بأنها الدولة التي (تمارس السلطات فيها مؤسسة رجال الدين نيابة عن الإله) وفق قوانين كنسية تسمى (الدوغما) أي الإملاءات العقدية التي لا يحق لأحد معارضتها.
علاوة على ذلك ارتبط المصطلح من الناحية "التطبيقية" في الذاكرة المعرفية (التاريخية) الغربية، بحروب "الإكراه الديني" الدموية، في تلك الحقبة من سلطة الكنيسة، وكانت حروبا دينية ومذهبية محضة، كحرب المائة عام وحرب الثلاثين عاما وغيرها كالغارات الكنسية على أصحاب المذاهب الأخرى أثناء الحملات الصليبية.
ملاحظة بين السطور
تلك الصورة التاريخية لا تلصق بدين المسيحية السماوي، ولا ينبغي ذلك، ولا تلصق بفلسفات إغريقية ورومانية وتنويرية وحداثية، بل هي ممارسة تطبيقية منحرفة، وتوجد في عصرنا هذا ممارسات تطبيقية منحرفة من خلال نظم تصف نفسها بأنها "ديمقراطية علمانية".
ليس التطبيق المنحرف مصدرا للحكم على المبادئ والتصورات والمناهج.
هذا ما يسري أيضا، أو يجب أن يسري على ما يوجد من شواهد تاريخية ومعاصرة بشأن "تطبيق منحرف" للإسلام ومنهجه أيضا.
الإسلام و"الدولة الدينية"
منهج السلطة الذي يوصف بدولة دينية هو:
١- مقاليد السلطة فيه بيد مؤسسة دينية (بمعنى الأديان السماوية)
٢- أو مقاليد السلطات الثلاث فيه بيد مؤسسة عقائدية (بمعنى تصورات وضعية)
٣- احتكار المؤسسة لهذه السلطات في الدولة.
٤- إملاء رؤاها الذاتية من خلالها.
٥- زعم العصمة لنفسها، أي اعتبار كلامها قطعيا وجبريا لا يردّ.
٦- تعاملها مع بقية البشر على هذا الأساس.
عندما يتبنى أي طرف (إسلامي أو سواه) نظاما للحكم على هذا النحو يكون قد تبنّى "دولة دينية" بذلك المفهوم الغربي المذكور آنفا والمرفوض جملة وتفصيلا.
يكفي وجود بعض هذه العناصر لرفض من يدعو إليها ورفض دعوته.
هذا الأمر غير خاص بمن ينطلق من الأديان السماوية، لا سيما الإسلام، ولنتأمّل في هذه العناصر لنجد أنها "جميعا" في صلب ما قام عليه (مثلا) الحكم الأسدي المتهالك في سورية، أو الأنظمد الاستبدادية الأخرى في مصر وسواها، وقد كان كل منها يدين بالاستبداد ولا يتبنى دينا ولا منهجا إسلاميا ولا مذهبيا ولا حداثيا.
المنهج الإسلامي
ما تعنيه كلمة "الدولة الدينية" وفق تاريخها المعرفي الغربي بعيد أو يجب أن يكون بعيدا جملة وتفصيلا عن الفكر الذي يقوم عليه العمل لقيام دولة تستند إلى الإسلام منهجا لممارسة السلطة، دون أن ينطوي على الإكراه لتبنيه دينا بأي شكل من أشكال الإكراه:
١- عندما نقرأ قوله تعالى مثلا: (وأن احكم بما أنزل الله) -وكلمة حكم هنا وفي آيات أخرى تعني الفصل بين الناس وهو أقرب إلى السلطة القضائية- نعلم أنّ ممّا أنزل لنحكم به قوله عز وجل في محكم آياته: (لا إكراه في الدين).. وهو أساس ثابت عبر آيات أخرى أيضا.
٢- لم يقرر الإسلام بنية هيكلية مفروضة لممارسة السلطة.. وبالتالي لا أساس لعمل حزبي أو غير حزبي يقوم على تثبيت (مؤسسة دينية) لممارسة السلطة في دولة.
٣- يقوم المنهج على أساس أصولي كليّ جامع: تحريم الإكراه في الدين (حرية المعتقد وممارسة العبادات..) كما يقوم على جملة من المبادئ والقواعد الكبرى ذات العلاقة المباشرة بالسلطة والسكان والعلاقات الخارجية للدولة: العدالة والكرامة والحقوق والحريات والمسؤولية والمحاسبة وغيرها.
والتفاصيل -سيان في أي مجال قضائي وتشريعي وتنفيذي- لا تصحّ إذا تناقضت مع الأساس الجامع أو المبادئ والقواعد الكبرى.
نقاط التقاء مع "الآخر"
كثير مما يقول به هذا المنهج "الإسلامي" يقول به آخرون انطلاقا من معتقدات وتصورات أخرى، هذا أمر طبيعي في واقع الأسرة البشرية المعاصر كنتيجة من نتائج التجارب التاريخية.
العناوين مشتركة في أغلبها:
العدالة والكرامة والحقوق والحريات واستقلالية القضاء وفصل السلطات.. إلى آخره. ولكنّ النقطة المفصلية الحاسمة هي (مصداقية) الدعوة ومن يدعو. فإذا تشابهت العناوين (واقتصر الاختلاف على التفاصيل) لا يحسم الاختلاف في عملية بناء دولة معاصرة بصورة منصفة موضوعية سوى (المرجعية الشعبية) بمعنى إرادة الغالبية الشعبية عبر آليات مضمونة للتعبير عنها وتطبيقها، ولا يعني ذلك أنها تقرر ما يقرره "الدين" أو "المنهج"، بل تقرر نسبة مصداقية من يتبنى التطبيق فحسب من أشخاص وهيئات، وتفضل بعضها على بعض للممارسة التطبيقية. ولا تستقيم هذه المرجعية للغالبية الشعبية دون وجود آليات دستورية وتقنينية تمنع (مصادرة الحقوق والحريات الأساسية) فلا يتعرض الطرف الخاسر في عملية تحكيم الإرادة الشعبية لإقصاء أو تهميش أو عقوبة أو حظر.
نقاط اختلاف مع "الآخر"
الاختلاف بين (المناهج) المتنافسة كامن في بعض مضامين المصطلحات، كالعدالة، وفي التفاصيل وبعض الأولويات.. ولكن هذا اختلاف من قبيل ما يوجد (أيضا) داخل إطار كل منهج على حدة.
مثال ذلك اختلاف التشريعات والقوانين ذات العلاقة بالحريات في الولايات المتحدة الأمريكية عنها في فرنسا أو الهند أو سواها.. مع تبني الجميع للمنطلق العقائدي العلماني منهجا، وللديمقراطية وسيلة تطبيقية.
حيث يوجد اختلاف يكون الحوار مطلوبا وضروريا ونحن على أبواب حقبة تغييرية لبناء مستقبل الأوطان والشعوب بعد حقب المعاناة الطويلة والدامية جرّاء احتكار الفكر والرؤى العقائدية والسياسات التطبيقية معا.
ولكن.. إلى جانب الحرص على الحوار، لا ينبغي القبول بقصر الحوار على (رفض المنهج الإسلامي أو قبوله) لا سيما عندما يأتي الرفض.. هكذا على وجه التعميم، دون حجة موضوعية ودليل، أو من قبيل تجريم النوايا قبل تجريم الأقوال والممارسات، أو نتيجة فوضى المفاهيم والمصطلحات والعبث بها.
الحوار مطلوب من حيث الأساس، ونطلبه مع (الآخر) من منطلق منهجنا الإسلامي.
ولكن عندما يمارس (الآخر) الإقصاء (أي إقصاء من يتبنى المنهج الإسلامي) فهو يكرر واقعيا ما كان في العقود الماضية من إقصاء واستئصال.. آنذاك لا يقوم الحوار أصلا.
دولة مدنية
هل ينبغي إذن القول بمطلب "الدولة المدنية" وكفى الداعين لمنهج إسلامي "شرّ الاختلاف"؟
يمكن.. ولا يمكن.
فما قيل بشأن فوضى المفاهيم والمصطلحات على صعيد كلمة "الدولة الدينية" يسري على مصطلح "الدولة المدنية" أيضا، ولهذا:
يمكن الأخذ بهذا المطلب.. عندما يكون المقصود بالكلمة موضع توافق بين أصحاب المناهج المتعددة.
ولا يمكن.. عندما يسود سلوك احتكاري مرفوض لتعريف الكلمة وربطه بمنهج معين دون سواه.
إذا كان المقصود بالمصطلح "تحكيم إرادة الشعب" كما ورد آنفا، في اختيار المرجعية والسلطة والحريات والحقوق الإنسانية المدنية في الدعوات السياسية وغيرها، فلا يتناقض ذلك مع المنهج الإسلامي.
وإذا كان المقصود بالمصطلح "تحكيم إرادة الشعب في ظل منهج بعينه فقط" فهذا مرفوض في المنهج الإسلامي وفق أصوله الكبرى، وإن خالف بعض من يزعم تطبيقه تلك الأصول كما هو الحال في الدولة الإيرانية المعاصرة، ويفترض رفضه في المنهج العلماني أيضا إذا صدق دعاته في الالتزام بأصوله، ولم يتبنوا تطبيقاته المنحرفة كما هو الحال في أكثر من دولة عربية وإسلامية وأجنبية.
نبيل شبيب