رؤية – النهوض هدف حضاري ثوري

ليس صحيحا أن نهوضنا يفرض الاعتماد شبه المطلق على الغرب المتحضر علميا وقيميا..
وليس صحيحا أن نهوضنا بمعايير قيمنا الحضارية يعني القطيعة الكاملة مع التقدم العلمي والتقني الغربي..
ولكن من الضروري أن تظهر معالم رؤيتنا لطريق النهوض الذي فتحت الثورات التغييرية بابا له، في نطاق رؤية شاملة لا نزال نبحث عنها في عصر الثورات الشعبية والأعاصير المضادة وحتمية التغيير.
  
هل يوجد خلل؟
إلى جانب غياب الرؤية الموجهة للعمل الثوري والسياسي نعاني من غياب الرؤية الموجهة للعمل الأهلي/ المدني إلى حد كبير، إنما لا تنتظرنا الضرورات التي فرضها مسار الثورات الشعبية وأعاصير التحرك المضاد دوليا وإقليميا، فكان من الطبيعي أن تنشأ جهود واسعة النطاق، دون معايير ذاتية تنبثق عن رؤية مشتركة، لتربط بينها بحيث تتكامل على صعيد ما تخدمه من برامج تعليمية ومشاريع إعلامية ودورات تأهيلية وسوى ذلك مما انتشر انتشارا واسعا.
ولا حاجة لذكر الأسباب التي جعلت معظم تلك الجهود يدور حول محور الاستعانة بجهات غربية، رسمية ومستقلة، من أجل تلبية الضرورات الفورية، والعمل لإعادة بناء ما يدمره الاستبداد والفساد.
بغض النظر عن ظواهر "مرضية" ليست موضع الحديث هنا، يمكن أن توجد من وراء بعض تلك الاستعانة أغراض إضافية مرفوضة، لا تساهم حصيلتها في التحرر من "منظومة الهيمنة والتبعية" إلى جانب التحرر من الاستبداد والفساد المحليين، بينما يمثل هذا وذاك معا جوهر هدف تحرير الإرادة الشعبية. ولكن لا يصح تعميم هذه الصورة أيضا، فمن الجهات الغربية من يريد العون الإنساني، وقد يربطه بأهداف مستقبلية مشروعة لا غبار عليها، ولكن لا ريب أنها تنطلق بحكم واقع الحال من رؤى غربية سائدة، من شأنها الحفاظ على موقع حضاري غربي عالميا، بما في ذلك الوجه السلبي منه، وفي مقدمته منظومة الهيمنة والتبعية سياسيا وأمنيا واقتصاديا وقيميا. كذلك يوجد من داخل الثورات الشعبية من يعمل في هذا المجال وهو مطلع على واقع الغرب من داخله وعلى مفاصل بناء التقدم المعاصر فيه، ويتحرك مقتنعا بأهمية توظيف ما يقدمه الغربيون وفق منظورهم ويدعم تحقيق أهدافنا بمنظوره.
الواقع أننا في عصر الثورات والتغيير ومن قبل أيضا أمام خيط رفيع ولكنه بالغ الأهمية يفصل ما بين أثر الانبهار بالتقدم الغربي وبين واجب الاستفادة الهادفة منه.

الحاضنة المعرفية
الأخذ بالأسلوب العلمي المنهجي المتبع في الغرب لا يعني الانبهار بالضرورة، فلا غبار عليه ما دام يجري على صعيد العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء، فالحضارات البشرية جميعا توارثت عن بعضها بعضا آخر ما وصل إليه التقدم العلمي الطبيعي والتقني عبر سلسلة دورات حضارية، وكل منها يستأنف مسيرة الأسرة البشرية، حيثما وصلت في لحظة تاريخية تشرق فيها شمس حضارة وتميل أخرى إلى المغيب، وهذا ما يتكرر من قبل اكتشاف النار إلى عصرنا الحاضر وما نعايش فيه من ثورات في أكثر من قطاع علمي وتقني.
أما ما يوصف بالعلوم الإنسانية ويتعلق بالإنسان وصناعة الإنسان عقيدة وقيما وفكرا وسلوكا فلا تسري عليه هذه القاعدة.
أثناء ما يسمّى القرون الوسطى الأوروبية واستبداد سلطة الكنيسة والإقطاع، شهد ميلاد مسيرة النهضة الأوروبية تطورا جديدا في حركتين متوازيتين:
١- ظهور أولى عمليات الترجمة والنقل لما وصلت إليه علوم الطب والفلك والعمران والبصريات وغيرها على أيدي العلماء المسلمين.. فأصبحت مراجعهم هي المعتمدة لعدة قرون في الجامعات الأوروبية الناشئة.
٢- ظهور الفلسفة الإنسانية في أوروبا (قبل فلسفة التنوير) ونقلها الكثير عما كان سائدا حول العدالة والإنسان وكرامته وحقوقه وحرياته، أي مكونات منظومة قيم الحضارة الإسلامية المزدهرة المجاورة آنذاك.
هذا الجانب الثاني بالذات، هو ما يمكن وصفه بروح الحضارة، وقد اقترن نقله بتوطينه – توطين القيم – في حاضنة الإرث المعرفي التاريخي الأوروبي، أي ربط "المنقول" ببعض فلسفات عصور الإغريق والرومان، وهذا رغم أن "أفضل" ما قدمه هؤلاء قد قام على "الطبقية" المتناقضة مع "القيم الإنسانية"، كما يجسد ذلك كتاب "المدينة الفاضلة" لأفلاطون.
بتعبير آخر: 
نقل علماء أوروبا منجزات علمية وتقنية، وتبنوها وبنوا عليها وأخذ فلاسفة التنوير ما نقلته "الفلسفة الإنسانية" من القيم الحضارية الإسلامية، فأعطوها حاضنة معرفية تاريخية غربية.
هذه الحاضنة هى التي تجعل الحضارة الغربية توصف بالغربية، ويسري شبيه ذلك على وصف الحضارات الأخرى كالصينية والهندية.
إن سلوك صانعي نهضة أوروبا قبل قرون هو "نموذج" يتكرر دوما في لحظة "تعاقب الحضارات"، بل هو من سنن النهوض والتغيير، وقد عرفناه مثلا عن حقبة المأمون وحركة الترجمة آنذاك، إذ ربطت أيضا المنقول عن أمم سابقة بمنظومة معرفية وقيمية وعقدية ذاتية، ولم تصنع ذلك مع مسارات التقدم في العلوم الطبيعية والتقنية، بل تابعتها حيث وصلت، وأضافت إليها.
في عصرنا الحاضر لم ندخل حقبة مشابهة منذ زمن طويل، ولهذا أطلق بعض المفكرين على ما تشهده بلادنا منذ عقود وصف "تكديس منتجات الحضارة الغربية" وليس "بناء الحضارة" ولا حتى "المشاركة" في بنائها، وقد أخفق هذا التكديس – مع تغييب منظومة قيمنا عن العمل لهدف النهوض – إخفاقا متكررا عبر أكثر من قرن من الزمن، أي على مدى ثلاثة أجيال متعاقبة. 
بل أدى تغييب منظومة القيم عبر استيراد المنتجات "غير العلمية والتقنية"، إلى مفعول معاكس، فأصبحت السيارة والطائرة ووسائل الاتصال وتقنيات التصوير وما شابهها، أشدّ مفعولا في صياغة "الفكر والذوق والسلوك والقيم" صياغة مادية أبطلت مفعول الجهد المبذول في الأسرة والمدرسة والمسجد وغيرها من مؤسسات صناعة الإنسان.
 
الإنسان.. هو العنصر الحاسم
إن حصيلة الإنجاز في الميادين المعنية بالعلوم الإنسانية وما يتبع لها، تنعكس سلبا أو إيجابا في توظيف المنجزات العلمية والتقنية في خدمة الإنسان، جنس الإنسان، وتحدد قسمات وجهها الحضاري، فيكون إنسانيا مشروعا أو ظالما قبيحا.
وكلمة "جنس الإنسان" تعني وجوب شمول العطاء الحضاري كل إنسان.. والنقص في ذلك في المسيرة الحضارية الغربية الراهنة، جعلها "احتكارية أنانية"، فلا يمكن الأخذ بما يتبناه من يتحدثون عن "عالمية منظومة القيم الحضارية" الحالية.
كل ما يرتبط بالإنسان في الواقع الحضاري الغربي المهيمن بشريا، لا يسري على "كل إنسان"، بل يكشف عن "انحراف القيم" نتيجة توجهات عنصرية وطبقية ومصلحية منفعية وغيرها، ونرصد نتائج ذلك في التعامل مع المآسي البشرية كالمجاعات والحروب العدوانية، والمآسي الطبيعية الكونية -إذا صح التعبير- كتلويث البيئة والتأثير السلبي على المناخ العالمي.
إن "الإنسان" هو الذي يتعامل مع شروط تحقيق الإنجازات العلمية والتقنية، يطورها هو فتتطور حياته، ويوظفها هو كي يستخدمها في صالحه، ولا يدعها تتحكم هي في تطوره، فتستخدمه.  
وعندما تنحرف المنظومة القيمية في "تكوين الإنسان" في نطاق حضارة قائمة، يقع الخلل الذي يتجسد في مظالم لا حصر لها.. لهذا يجب الوصول في مسار الثورة والتغيير إلى ما يشبه قواعد ضابطة للتواصل مع جهات غربية فيما يتعلق ببرامج ومشاريع ودورات ودراسات تتعلق بتكوين الإنسان تخصيصا.
في هذا الإطار يكفي طرح بعض العلامات الكبرى، مع تأكيد الحاجة إلى طرح مفصل في نطاق رؤية شاملة لمسار الثورة والتغيير.. من هذه العلامات:  
١- لا ينبغي أن نعرقل حركة النهوض التي نتطلع إليها عبر الامتناع – فرضا – عن النقل والاستفادة من المنجزات العلمية والتقنية المحضة لدى أي طرف خارجي. 
٢- لا ينبغي أن نعرقل حركة النهوض أيضا عبر إغفال اعتماد "روح النهوض الحضاري" المطلوب من معين إرثنا المعرفي والقيمي التاريخي الذاتي، لتوجيه ‎ ما نستخدمه من آليات النهوض في مختلف جوانب صناعة الإنسان.
٣- يجب الحرص على "خط أحمر" يمنع من الوقوع فيما وقعت فيه مسيرة الحضارة الغربية، وهو العمل من أجل "نهوض حضاري بمنظومة قيم ذاتية" دون شموله "جنس الإنسان" بجميع عطاءاته، فهذه النظرة "الاحتكارية الأنانية" معول من معاول الهدم الذاتي لأي بناء حضاري بشري.

نبيل شبيب