(ملخص بحث مطول نشر في إصدارة سابقة من مداد القلم يوم ٧/ ٣/ ٢٠٠٧م)
نعايش علامات فارقة لمخاضٍ إقليمي ترافقه آلام تضحيات كبرى، كما هو الحال مع كلّ تحوّل كبير، وتأخذ أحداث هذه الحقبة بذلك مكانها على مفترق طرق تاريخي جديد، من المؤكّد أنّه لن يولد من خلاله سياسيا ولا عسكريا شرقٌ أوسط قديم ولا جديد، صغير ولا كبير، وإن أسفر عن انهيارات متتالية في المنطقة.. إنما أصبحت نشأة وضع جديد محتمة، ولم يظهر كثير من معالمه وثوابته بعد، ولكن ظهرت مؤشرات، أهمها أنّ الإرادة الشعبية بدأت تتحرك لاسترجاع سيادتها على صناعة القرار والحدث تدريجيا، ومنها أنّ الروح الانهزامية فقدت أهمّ مرتكزاتها، وهو ما قام على واقعية مزيّفة بذريعة استحالة مواجهة قوى عاتية.
نسب استعماري متميّز
مع مطلع التسعينات الميلادية من القرن الميلادي العشرين واهتراءِ ما بقي من المعسكر الشيوعي في الشرق، بدأ تطوير مسيرة الهيمنة الأمريكية مع توجيه رأس الحربة إلى المنطقة الإسلامية، فانطلق شعار "الإسلام عدوّ بديل"، وانطلق التطبيق من محطة محاربة "الأصولية"، حتى وصل إلى "الفوضى الخلاّقة".
داخل نطاق هذه "العائلة" من المصطلحات ذات الأبعاد العدوانية، يندرج مصطلح "الشرق…" بمختلف ما يوصف به قديما وحديثا: أدنى.. أوسط.. كبير.. جديد.
لا يمثل هذا التعبير "مصطلحا" بالمعنى العلمي، فينبغي استيعابه وفق مقصود قائله من خلال:
– معرفة تاريخ الكلمة..
– رؤية مرتكزات سبكها في صيغة محددة..
– بيان سبل نشرها على أرض الواقع..
– استقراء ما ينبني على استخدامها..
تعبير "الشرق…" (وملحقاته) هو من التعابير التي تُقحَم إقحاما على دائرة المفاهيم والمصطلحات، وبينها قاسم مشترك، محوره الفكري: "الانسلاخ المعرفي" حضاريا، ومحوره العملي: "التفرقة والتجزئة".
إن تقويض الحاضنة اللغوية التعبيرية والمعرفية الحضارية في الاستخدامات اليومية للكلمات والتعامل بها مع معطيات الواقع، يشمل عمليا تقويض حاضنة التلاقي، والتوحّد، والتضامن، والتعاون.. وينشر "الاعتياد" على عوامل الافتراق والخلاف والصراع، إلى درجة الوهم أنها بدهيات وثوابت طبيعية، فكرا وتطبيقا.
تزوير المصطلحات
دون تفصيل.. رصدنا كيف أصبحنا نتجنّب ذكر مصطلحات التلاقي والتضامن، بل انتشر الاستهزاء ممّن يذكرها، تشكيكا به وتخويفا لأمثاله! وقد عايشنا مرحلة التردد عن استخدام كلمة "الوحدة الإسلامية" أيّام العصر الذهبي للقومية العربية، ثم عايشنا مرحلة التردد لاحقا عن استخدام كلمة "الوحدة العربية" أيام النقلة نحو تفكيك قطري فسيفسائي لتجزئة المجزّأ.. وليرجع من يريد إلى سلسلة كتب ومقالات حملت عناوين "موت العروبة" و"تأبين العروبة" وما شابه ذلك.
كيف يُصنع مفهوم مزوّر كالشرق الأوسط:
أوّلا: يُطرح التعبير المبتكر ثم يشهد تكثيف استخدامه وكأنّه بدهي لا يحتاج إلى نقاش، فإن اعترض باحث من الباحثين موضوعيا لا يجد جوابا يتناول "المضمون" بل جواب التعريض "الشخصي" به وبفكره وثقافته، فهو ضحية "فكر المؤامرة"، وهو خصم "العقلانية.. والواقعية.. " وما إلى ذلك من مقولات محورها التشكيك في الباحث المعترض وعقله، وتعطيل النظر في مضمون اعتراضه أصلا.
هذا رغم أنّ "التعبير" المقصود بالاعتراض لم يكن وليد دراسة.. ورغم أن إعادة النظر جائزة ومطلوبة حتى في "المصطلحات" المعتبرة المنبثقة عن دراسات منهجية محكمة.
ثانيا: الإصرار على استخدام تعابير الانسلاخ الفكري والتفرقة العملية، لا ينقطع مهما ثبت ضررها، وهذا ما نجد مثالا صارخا له في مسلسل تعابير "شرق.. وملحقاته" (إلى جانب الشمال الإفريقي.. ومنطقة البحر المتوسط.. وأواسط آسيا.. إلى آخره) فالحصيلة كارثية على أرض الواقع.. وكارثية بمنظور تغييب مصطلحات أصيلة على محاور التوحيد والتضامن، مثل "عالم" و"وطن"، مع ملحقاتها "عربي" و"إسلامي" و"مشترك"، وجميع ذلك في دائرة حضارية ذاتية فاعلة.
تاريخ استعماري وحاضر دموي
الأمر المهمّ هو واقع التعامل مع هذا التعبير/ المصطلح، فليس الأمر أمر "سفسطة" أو "فلسفة" في ميدان ذهني تجريدي قطعا، ناهيك أن يكون من قبيل "لعب عبثي بالكلمات"، ولا يعرف التاريخ البشري في أي مرحلة من مراحله "انفصاما" بين المصطلحات والأحداث، ونجد هنا:
١- كيف انتشر مصطلح "الشرق الأوسط" الأمريكي النشأة، مكان مصطلح "الشرق الأدنى" البريطاني النشأة، مواكبا لحلول الهيمنة الأمريكية وريثا استعماريا لدول الاحتلال الأوروبي في المنطقة الإسلامية.. وكانت الولادة الأولى لتعبير "الشرق الأدنى" في سجلات مكتب الهند البريطاني عام ١٨٥٠م أما ولادة تعبير "الشرق الأوسط" فكانت في مقالة لخبير البحرية الأمريكي ألفريد ماهان عام ١٩٠٢م، وتزامنت مع "ازدهار" المؤامرات الدولية لتقاسم إرث "الامبراطورية العثمانية العجوز"، مع وصول حزب الاتحاد والترقّي على أكتاف "يهود الدونمة" إلى السلطة عام ١٩٠٩م، فحرب البلقان عام ١٩١٢-١٩١٣م، حتى اتفاقية سايكس بيكو البريطانية الفرنسية وما سمّي "وعد بلفور" مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
٢- تتابعت محطّات التنافس والصراع على النفوذ، ولم ينقطع استخدام الأوروبيين عموما لكلمة "شرق أدنى" في أدبياتهم السياسية، مقابل استخدام الأمريكيين لكلمة "شرق أوسط"، رغم تطابق المنطقة الجغرافية المقصودة، ويسري هذا على الترجمات في الاتجاهين، والمتأمّل في الساحة الثقافية والفكرية والإعلامية يرصد أنّ استخدام تعبير "الشرق الأوسط" يتركز على كتاباتِ أقلامٍ تتبنّى الارتباط المطلق بالأمريكيين ويغيب لدى من يركّزون على الاستقلالية الأوروبية.
٣- يرتبط بما سبق أنّ استخدام الكلمة "نخبويا" في الساحة اللغوية العربية، ينتشر مرافقا لانتشار المضمون الفعلي للتبعية الفكرية تجاه صنّاع القرار في الدولة الأمريكية، وبالتالي لمسيرة الهيمنة الصهيوأمريكية.
٤- من اللحظة الأولى لم تكن ولادة التعبير بريئة من الأغراض السياسية، ويؤكّد ذلك مثلا أنّ استخدامه من جانب البريطانيين لم يشمل في البداية كلا من إيران ومصر جغرافيا، إذ لم تكونا تحت سيطرة الدولة العثمانية، في تلك الفترة التاريخية التي شهدت مساعي حثيثة لتقويضها، بزعامة، ذات خلفية "بريطانية بلفورية" صهيونية.
٥- ليس غريبا أمام هذه الخلفية التاريخية أن نعاصر في الحقبة الحالية، اقتران مصطلح "شرق أوسط كبير" ثم "شرق أوسط جديد" بحروب عدوانية أمريكية حافلة بصنوف جرائم القتل والتعذيب والمذابح والفتن.
مخاض آخر
إنّ مشكلة التعبير الأمريكي (الشرق الأوسط الجديد) والنبوءة التي ينطوي عليها، مشكلة ذاتية، تكمن في انطلاق أصحابها من نظريات عدوانية متطرّفة في اتجاه الهيمنة والسيطرة عالميا، مقترنة بأسلوب الإملاء والعجرفة، وهو ما شمل الحلفاء الأوروبيين أيضا.. هذا رغم أن الظروف الجديدة لم تكن أفضل مما كانت عليه عند ولادة تعبير "الشرق الأوسط الكبير" من قبل، وقد مات في وحل "المغامرات الأمريكية غير المحسوبة" منذ أفغانستان، بل يمكن القول إنّ طرح تعبير "الشرق الأوسط الجديد" أمريكيا يعني بإيجاز:
١- أنّ مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أصبح عتيقا يُستغنى عنه..
٢- أنه إذا صحّ زعم اقترانه بنشر "الديمقراطية" فهي عنصر يمكن تغييبه كما حصل من قبل..
٣- يصعب تصوّر نجاح ما لمشروع جديد، والأجنحةُ الأمريكية تتكسّر واحدا بعد الآخر.. سياسيا واقتصاديا
٤- الأرجح أن نبوءة توليد "شرق أوسط جديد" في عملية قيصرية ستسقط في مخاض آخر يعبر عنه واقع المنطقة وسيسفر عن وليد آخر، غير الذي تريده واشنطون..
إنه وليد من صنع الصمود لا الهيمنة الأجنبية، والمقاومة وليس الأسلحة الهمجية، والوعي الذي بدأ ينقل صناعةَ القرار إلى أيدي قيادات تأبى الهيمنة الأجنبية وتولد ولادة طبيعية في رحم تضحيات الشعوب ومنجزاتها.
نبيل شبيب