الفقرات التالية موجز مقالة مطولة حررت ونشرت في موقع "إسلام أون لاين" خلال آب/ أغسطس ٢٠٠٦م، وكانت الحروب الإسرائيلية ضد لبنان وقطاع غزة تغلب على صناعة المشهد، وهو ما تبدل بما صنعته وتصنعه إيران وميليشياتها في سورية واليمن والعراق وسواه في هذه الأثناء.. ويبقى أن المقصود من نشر هذه الفقرات في حينه يتناسب أيضا مع الأوضاع الراهنة عقب انطلاق الثورات الشعبية العربية، أما ما أضيف إلى النص فاقتصر على عبارات معدودة وضعت بين (قوسين).
– – –
أراد أنور السادات أن تكون حرب ١٩٧٣م آخر الحروب العربية-الإسرائيلية وكان له ما أراد، فجميع ما جرى بعد إخراجه مصر من حلبة الصراع المحوري في المنطقة العربيّة، وجلبه للهيمنة الأمريكية المباشرة والمتعدّدة الميادين، لم يكن "حروبا نظامية" بين الدول العربية والثكنة العسكرية الصهيوأمريكية بفلسطين، بل كان "اعتداءات من طرف واحد دون ردّ عليها"، من قبيل تدمير المفاعل النووي العراقي، أو من قبيل اجتياحات عسكرية استهدفت لبنان في حماية الهدوء الطويل على الجبهات الثلاث، المصرية والسورية والأردنية، بالإضافة إلى عمليات التقتيل والتدمير والتهويد الهادفة إلى ترسيخ الأقدام الإسرائيلية واجتثاث أهل البلاد الأصليين في الأرض الفلسطينية.
تحييد الجيوش وتعطيلها
بعد نكبة "كامب ديفيد" السياسية تسارعت خطى المشروع الصهيوني، أو الصهيوأمريكي، (وكذلك مشروع الهيمنة الإيراني) في المنطقة، ولهذا أسبابه المباشرة والواضحة، وفي مقدّمتها أنّ حصيلة كامب ديفيد أعطت "مشروعية باطلة ومزيفة" لأسلوب "فرض الأمر الواقع بالقوة" الباطل بمفهوم القانون الدولي ونصوصه، ففتح الطريق أمام الهدف الجوهري للمشروع الصهيوني: الهيمنة..
١- جغرافيا.. وهو ما بقيت حدوده عائمة ما بين مقولة "من الفرات إلى النيل" وما وصل إلى تمدد السيطرة المباشرة عام ١٩٦٧م
٢- سياسيا.. وهذا ما بدأ بالانتقال بالعالم العربي من حقبة تأسيس جامعة لدوله، إلى حقبة استثارة عوامل الفتن الطائفية وغير الطائفية وتوظيفها لمزيد من التفتيت لما سبق تقسيمه إلى أقطار
٣- اقتصاديا.. ولا يخفى مدى ما وصل إليه مصير الثروة النفطية استهلاكا ضائعا واستثمارا خارجيا، وما وصل إليه الانهيار في الدول غير النفطية، ارتباطا خارجيا، وفسادا داخليا، جنبا إلى جنب مع حملات "التطبيع" التجاري وغير التجاري
٤- عسكريا.. وهو ما فُتحت الأبواب إليه بمقولة "آخر الحروب" التي انطلقت من جانب واحد، وترتّب عليها:
اكتمال تعطيل معاهدة الدفاع العربي المشترك..
وازدياد توظيف الجيوش لحماية السلطات..
وتخفيض عدد القوات المسلحة العربية الأقدر من سواها..
وربط التسليح بالرقابة الأجنبية المطلقة توريدا واستخداما وتدريبا وعبر الاستخبارات الأجنبية المعتمَدة رسميا داخل تلك الدول..
و تعطيل أي مشروع لصناعة حربية..
وجميغ ذلك مقابل ما كان من تطوير السلاح الإسرائيلي إلى مستوى التفوّق من حيث التجهيزات على الدول العربية منفردة ومجتمعة.
. . .
إن الهيمنة الأجنبية، السياسية والاقتصادية، تمنع تلقائيا من التعبئة العسكرية، فالتبعية الأجنبية على صعيد الطاقات الذاتية وصناعة القرار تجعل من الحديث عن إعداد عسكري حديثَ هَزل من قبيل المضحكات المبكيات، وينعكس في التصريحات الرسمية العلنية المتكررة بشأن عدم القدرة أو عدم الرغبة أو عدم النية لإيجاد قدرة عسكرية ما.
والاستبداد يمنع بدوره من التعبئة التي لا تتحقق في أيّ بلد دون أن تشمل الطاقات الشعبية، فهي المصدر الأكبر للقوة الذاتية، دفاعية كانت أم هجومية.
هذهالمعطيات هي التي يلخّصها واقعياعنوان "خيار السلام الاستراتيجي" الذي طُرح دون أن يكون إلى جانبه أي خيار آخر، وبالتالي لم يعد خيارا بل "حتمية"، ولكنّها حتمية ناقصة، لا يمكن تحقيقها، رغم الرغبة الرسمية "العربية" فيها، فهي حتمية من جانب واحد، مقابل الطرف الآخر، العسكري بتكوينه، ونواياه، وتطبيقاته لفرض الأمر الواقع، مرحلة بعد مرحلة، تتحدّد مواعيدها وفق ما يصل إليه هو من قدرات ذاتية على تحقيق أهدافه، وليس نتيجة حسابات ردود فعل ما لدى طرف آخر لا يملك القرار بشأنها، كما كان مع الاجتياحات والهجمات العسكرية على لبنان، أو كما وصل إلى درجة التعاون مع الطرف الخارجي المعادي في قضية العراق، هذا مع الإشارة مجدّدا إلى أنّ المشروع الصهيوني مشروع صهيو-أمريكي، وأن العدوّ الإسرائيلي مندمج عضويا في تركيبة العدو الأمريكي، سياسيا وعسكريا واقتصاديا وفكريا.
أمام هذه المعطيات يمكن القول إنّ مقولة السادات عن اعتبار حرب ١٩٧٣م آخر الحروب العربية-الإسرائيلية تحققت، لا سيّما وأنّ خَلَفه سعى لنزع سلاح مصر طوعيا، تخفيضا لعدد القوات المسلّحة، ومستوى تدريبها، وربطها بالمناورات العسكرية المشتركة مع العدوّ الأمريكي، ممّا يعطي صيغة مهامّها الدفاعية مضمونا آخر، لا علاقة له قطعا بمواجهة العدوّ الإسرائيلي على الأبواب.
معطيات جديدة
هل جدّ جديد عبر المواجهات التالية في غزة ولبنان؟..
كما هو معروف هي اعتداءات من طرف واحد وليست "حروبا نظامية"، فالسماء المفتوحة أمام القذائف والمذابح الجماعية، وبقاءالجيوش العربية في الثكنات إلاّ في حالات نادرة محدودة، جميع ذلك يجعل من إطلاق كلمة "حرب" على ما جرى من الأحداث أمرا متناقضا مع مختلف المصطلحات العسكرية والسياسية والقانونية الدولية.
الواقع يشهد أنه "لم ينته عصر الحروب" -كما أراد السادات والمشروع الصهيوأمريكي- ولكن اتخذت الحروب شكلا آخر، لا تتحكّم فيه سياسات الأنظمة، القائمة على مختلف الأسس ولكن ليس على أساس الإرادة الشعبية حتما.
منذ اجتياح لبنان الأول بعد "كامب ديفيد"، دون تدخل عربي، طُرحت مقولات مفادها أنّ المنطقة العربية لم تعد تملك شيئا سوى الانصياع للسياسات الصهيو-أمريكية وآلتها العسكرية، وانتشرت حملة تيئيس واسعة النطاق..
ومع الحرب الأولى ضدّ العراق بمشاركة عربية، ثم القضاء عليه دولةً وطاقةً عبر الحصار والحرب الثانية، بدا أنّ الأبواب فُتحت أمام المشاريع الصهيوأمريكية، بما فيها ما سمي "الشرق الأوسط الكبير".
(على خلفية معطيات "التيئيس" تلك في حقبة"كامب ديفيد" ومدريد وأوسلو، ولدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى فالثانية، وما زالت نتائجها-حتى إرهاصات الانتفاضة الثالثة عام ٢٠١٥- تؤكّد استحالة القضاء على المقاومة وعلى الإرادة الشعبية التي صنعتها، وهذا رغم ما واجهته من انحرافات طائفية، كادت تقضي على "مفهوم المقاومة" نفسه لولا الثورات الشعبية العربية).
قدلا يوحي ما بقي من الواقع الرسمي العربي أنّه سيكون طرفا حقيقيا في أيّ حرب مستقبلية، وربّما وظّف أجهزته الأمنية للمشاركة في محاولة منع وقوع "مغامرات غير محسوبة"، ولكن سيّان ما تصنع الأنظمة لن تستطيع أن تقف في وجه تنامي حجم المقاومة الشعبية الناشئة، وتحوّل مهمّة الدفاع عن المنطقة، من الجيوش، إليها،ومن القرار الرسمي المقيّد ذاتيا وخارجيا، إلى القرار الشعبي المستقلّ عن الأنظمة.
نقطة التحوّل ومخاطرها
الطريق إلى تحقيق الأهداف المشروعة هى طريق تحرير الإرادة الشعبية، ليمكن تحرير صناعة القرار الرسمي نفسه يوما ما، وهي طريق بالغة الخطورة، عظيمة العقبات، وكبيرة التضحيات أيضا.. (وهذا ما ظهر للعيان في ثورات الربيع العربي).
لقد أظهرت الاعتداءات في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان عددا من الحقائق حول أساليب الاعتداء في غياب الوجود العسكري الرسمي عن الميدان:
١- شمول الضربات العسكرية والسياسية العدوانية للجهات المنفتحة أصلا على العدوّ الأجنبي.. تأكيدا أن المطلوب هو التسليم المطلق، وليس التبعية فقط.
٢- حصار قنوات دعم المقاومة الشعبية كما تشهد فلسطين إلى درجة حصار الحكومة المنتخبة نفسها.
٣- استهداف المدنيين -عبر الملاحقات الأمنية والمذابح الجماعية- سيّان هل تعاطفوا مع المقاومة الشعبية أم لا، وهذا ما يبين أن المطلوب هو إرهاب الشعوب، وليس مجرد ما أسموه "تجفيف منابع الدعم".
٤- الاستعراض العلني لعمليات انتهاك القوانين والأعراف الدولية، والإنسانية، دون عقاب، للتأكيد أنّه لا يوجد مَن يمكن أن يوقف آلة "الذبح والقهر" في البلدان المستهدفة.
٥- ممارسة الأنظمة لأقصى ما تستطيع ممارسته من ضغوط، لمنع انفجار شعبي جماهيري، يؤيد شعوبا إسلامية تتعرض مباشرة للقهر والغزو والاحتلال.
لقد أصبح "استعراض" فرض "شرعة الغاب" دون عقاب علنيا ومقصودا، وهذا ما تثبته شواهد أخرى معروفة منذ فترة طويلة:
١- لا وجود لمجلس الأمن الدولي بمعنى جهاز حيادي يحفظ الأمن والسلام كما يقرّر ميثاق الأمم المتحدة..
٢- التوافق قائم بين القوى الدولية المتنافسة في الأصل، عندما تواجه قضية "تحرر شعوب" على خلفية اغتصاب واحتلال وغزو وعدوان وحتى حروب الإبادة الإجرامية..
٣- المنظمات العربية كجامعة الدول العربية، والإسلامية كمنظمة المؤتمر الإسلامي، قامت واستمرّ وجودها على أسس يجعلها عديمة الفعالية، وما لم يتحقّق تطويرها من الجذور، لن تكتسب في المستقبل المنظور أيّ قيمة باتجاه تفعيلها.
. . .
ينبغي أن نصرف النظر.. أو التوقعات (وهذا ما أظهرته الثورات الشعبية فعلا) أن تكون الحروبالقادمة حروب أنظمة في دولنا تصد عدوانا خارجي.
بين أيدينا في المستقبل المنظور "حروب شعبية" تخوضها الشعوب نفسها، معتمدة على طاقاتها الذاتية، وقياداتها الواعية، وتنظيمات تنبثق عن الإرادة الشعبية.
وهذا مما تحمل "النخب" مسؤولية توطين نفسها عليه ليكون لها دور ما في الحاضر والمستقبل.
نبيل شبيب