أصبحت "مضايا" في سورية و"تعز" في اليمن وغيرهما من العناوين الصارخة لجرائم لا يمكن للعقل السليم تصور وقوعها لو كنا نعيش في عالم يعرف حقا ما تعنيه كلمة "الإنسان".. ولكننا نعيش في لحظة تحول تاريخي إلى عالم نرجو أن تسترجع تلك الكلمة في مستقبله معناها، وأن تشهد في معاملاتنا في واقع الحياة البشرية مقتضاها.. ولن يكون ذلك دون أن يكون نهج "الإنسان غايتنا" هو النهج الذي نتحرك بموجبه الآن أيضا في مسارات هذا التحول الكبير، وقد أصبحت سورية محوره ومركزه جغرافيا وتاريخيا.
نعلم أن طرح هذا العنوان بين يدي آلام ضحايا امتهان الإنسان وحياته بهمجية أسطورية غير مسبوقة يعني المطالبة بما يشبه المستحيل، ولكن هذا بالذات ما تعنيه الثورة التغييرية ضد تلك الهمجية، وما يتطلبه تحقيق النصر فيها.
. . .
قد يقول قائل من أهلنا ورفاق دربنا إن كثيرا ممن يرفعون شعار "الإنسان" ينطلقون من إنكار الإيمان بالله أو تحييده، ونشهد في عالمنا ما أوصل إليه ذلك على أرض الواقع، وإن كان التعميم لا يعطي صورة صحيحة، دون إغفال أن أعمال من يعملون للإنسان دون إيمان بالله "سراب بقيعة.." إنما تبقى علاقة الإنسان بربه مرتبطة بحسابه بين يديه، ونعلم أن الله تعالى العادل عدلا مطلقا، قد وعد بأن يجد من يتقن عمله في دنياه ما ينتظر ويعمل من أجله في الحياة الدنيا التي قصر هو إيمانه عليها، ولا يظلم ربك أحدا مقدار ذرة ولا يغفل عما يصنع العبد من خير لعباده، كما أنه جل وعلا لا يغفل أيضا عما يفعل الظالمون والمجرمون بعباده، ولا بد أن ينزل بهم العقاب الذي يستحقون في الدنيا والآخرة أو في الآخرة، وعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.
لينطلق من شاء مما يشاء في عمله من أجل "الإنسان" فحسب، ولكن من واجبنا أن نؤكد ونعلن ونمارس من منطلق الإيمان بالله عز وجل، ما تقتضيه قاعدة "الإنسان غايتنا" في كل ميدان من ميادين العمل الحياتية. ولا تناقض في ذلك مع ما انتشر في أوساط المسلمين من أن مرضاة الله غايتنا، فتلك هي الغاية العظمى لدى كل مؤمن بالله، وينطوي تحتها ما سواها من الغايات والأهداف.
الله الواحد الأحد هو غايتنا في كل شعيرة من شعائر العبادات دون استثناء.. أما في علاقة الإنسان بالإنسان، فهي تتحول عند المسلم إلى "عبادة" يرجو من خلالها مرضاة الله وأجره في الدنيا والآخرة، عندما تكون غاية تلك العلاقة الدنيوية هي "الإنسان"، كاليتيم الذي أمر الله تعالى برعايته وكفالته وحفظ حقوقه، وهذا ما يتبين عند التأمل في نصوص الكتاب والحديث، التي لا تحجر الرعاية عن غير المسلم يتيما وفقيرا ومسنا ومظلوما وضعيفا، وكذلك الأسير وهو في الأصل عدو غير مسلم وقع في الأسر.
وفي ساحات القتال إذا ما وجب لا يكون القتال جهادا موعودا بالقبول ما لم يكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.. ونعلم أن الحكم بالعدل بين الناس، ورفع الظلم عن سائر الناس، وتحقيق الكرامة لكافة بني آدم، وحظر إكراه الإنسان الفرد في الدين، وضمان وصول عطاء الله الدنيوي لسائر عباده.. نعلم أن جميع ذلك هو من "كلمة الله" تعالى تصديقا بما ورد في آيات القرآن الكريم.
. . .
نردد هذا لأنفسنا وأهلينا هذه الأيام ونحن تتقطع منا نياط القلوب، وتتجمد الدموع في المآقي، وتحترق الأكباد بلهيب الألم، بسبب ما نتابعه من أوضاع أهلينا في مضايا وأخواتها وفي سائر سورية (ساعة كتابة هذه السطور) قهرا للإنسان، وكرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، ومشاعر الإنسان.. كما أننا نردد هذا أيضا ونحن نتابع ونتألم بصورة مماثلة لما يجده أهلنا في تعز وأخواتها وغزة وسائر فلسطين وحتى في بلدان تدور فيها رحى حروب القهر والظلم والتجويع بأشكال أخرى كما في مصر والعراق والصومال ومانيمار وأخواتها.
الإنسان غايتنا لأننا نتابع ذلك كله ولأننا نعلم أن المسؤولين عن هذه الجرائم وعن الوصول بها إلى حضيض شيطاني ما بعده حضيض، إنما هم -مع تفاوت الدرجات- أولئك الذين يأتمرون بأمر المجرمين من أعداء جنس الإنسان، من بقايا النظام في سورية وحلفائه، أو أشباههم في غير سورية.
أفلا نقول إنهم فقدوا انتماءهم لجنس الإنسان، بل وأجناس الحيوان فالحيوانات أشد تراحما منهم تجاه بعضها بعضا؟
أفلا نقول أيضا .. إن المسؤولية لا تسقط عن أولئك الذين يدعمونهم بالتواطؤ أو التخاذل، ولا عن أولئك الذين لا يبذلون -وهم قادرون- بعض ما يملكون لدفع الظلم عن المظلومين والموت جوعا وعطشا ومرضا وتعذيبا وتنكيلا عن المنكوبين والمحاصرين والمعتقلين.
بلى.. نقول هذا وذاك ولا ينبغي أن ينجحوا بأن "نصبح" مثلهم عبر الحرب عليهم في سورية وأخواتها فهذه هي "معركة تحرير الإنسان" ولا يتحقق هذا التحرير إلا باكتماله جسدا وروحا، عقلا وقلبا، فكرا ومشاعر وأحاسيس، طاقة للبناء والعمران وقيما.. فلا بد أن يشمل "صناعة الإنسان" كما أراده خالق الإنسان أن يكون في حياة العبور إلى حياة الخلود.
إن الانتصار في معركة هذا التحول التاريخي.. لا يتحقق إذا اقتصر على مجرد هلاك فريق أصبح من جند إبليس وأعوانه، بل لا بد في الوقت نفسه من العمل على الحيلولة دون أن يحل مكانه فريق يشابهه فكرا ونهجا ومشاعر وأحاسيس. وإذا حصل ذلك فهو من أخطر أشكال الهزيمة لا سمح الله بوقوعها.. ولا ندفع شرّها عن الأجيال المقبلة ما لم يكن نهج "الإنسان غايتنا" جزءا لا ينفصل عن الفكر والتخطيط والعمل الجماعي والفردي في كل ميدان الميادين الحياتية، التي نخوض غمارها الآن، أو نعدّ للمستقبل من خلالها.
. . .
إن النصر معقود على أن يكون صاحب الحق "إنسانا"، ويبقى "إنسانا"، وهو يواجه أفاعيل عدو فقد إنسانية الإنسان.. هذا بعض ما نحتاج إليه وينبغي العمل من أجل ضمان وجوده واستمراره:
١- في ساحات المواجهة الميدانية.. ففيها أخطر أسلحة الحرب الهادفة إلى استئصال عنصر "إنسانية الإنسان" من الثورة وشعبها ومقاتليها ضد من يغتالون "إنسانية الإنسان" يوميا منذ عقود وعقود.. وإن خطورة هذا السلاح تتجسد في العمل ليحقق مفعوله عبر عمليات "التجويع والتشريد والتعذيب" الممنهجة، وعبر استعراض موات سياسات وممارسات إقليمية ودولية تتغافل -إن لم تتعمّد- عن ترك وحش همجي يصنع ما يصنع دون عقاب.
٢- في ساحات المواجهة السياسية والفكرية والإعلامية والنفسية وغيرها، فهي التي يظهر فيها الفارق بين حق وباطل، وبين عدل وظلم، وبين الإنسانية والهمجية.. وهي ميادين تسري عليها قواعد وأساليب للعمل لا نجهل ضوابطها بدءا بالحكمة وما توجبه، مرورا بالقول السديد وما يتفرع عنه، انتهاء بإظهار الحق كما هو وإقامة الحجة به على المبطلين، وجميع ذلك يدور حول "إنسانية الإنسان"، دون أن يغني عما تصنعه ميادين المواجهة المباشرة ضد المبطلين.
٣- وإلى جانب هذا وذاك تأخذ قاعدة "إنسانية الإنسان" مكانها الأهم والأبعد تأثيرا في سائر أنشطة العمل والتوعية والتدريب وتخفيف الآلام والدفاع عن الحقوق والحريات والإغاثة وغير ذلك مما تشمله أنشطة العمل الأهلي/ المدني، فهي التي تقيم أعمدة المستقبل على أسس وطيدة، فلا ينبغي أن نغفل عن تطهير تلك الأنشطة من كل ما يدنس الحاضر الراهن بفعل ما يمارسه أتباع الشيطان بحق الإنسان.
نبيل شبيب