رؤية – اغتيال مكانة الكلمة ومفعولها في الثورة الشعبية

الثورات العربية في سورية وأخواتها ثورات شعبية، لم تجد بطبيعة الحال ما وجدته ثورات تاريخية سابقة من "كنوز فكرية" سبق إعدادها والترويج لمضامينها مسبقا بمختلف وسائل التعبير والنشر على حسب معطيات العصر في كل ثورة على حدة، ولكن تحتاج الثورات الشعبية العربية أيضا إلى عطاء الفكر والكلمة، بمختلف وسائل التعبير والنشر المعروفة في هذا العصر، ويزعم كاتب هذه السطور أن من أخطر ما تعرض له المسار الثوري في سورية تخصيصا اغتيال مكانة الكلمة ومفعولها التوجيهي، ولا يعني ذلك "مؤامرة اغتيال" من خلال جلوس طائفة من الناس وحبك ما يريدون صنعه بليل، ثم العمل على تنفيذه بقوة الخداع والإغراء، لا سيما وأن عملية الاغتيال المقصودة تجري بمشاركة المفكر والثائر والسياسي والعالم ولم تكن مقتصرة على أفاعيل عدو مكشوف معروف أو مراوغ انكشف أمره.

. . .

من الشواهد على هذا الزعم:

١- من صنع أيدينا: كان للكلمات المبتكرة شعبيا في تسميات الجمعة مفعول ثوري توحيدي مباشر، وغابت لحساب استعراض ما ظهر من رايات مفرّقة، متعددة الألوان والأشكال، حتى أصبحت من مصادر التشتت والضياع بعد أن كانت الكلمة الثورية الشعبية عامل توحيد ومصدر قوة وتصميم وعزيمة. ويلحق بذلك التقصير إزاء إبداعات من قبيل ما صنعه أهل "كفرنبل" مثلا، مقابل التنافس للسيطرة على وسائل إعلام ثورية، حتى أصبح الارتباط التبعي فكرا وتمويلا من موانع نشأة نواة إعلام مهني متطور وحر مستقل.

شبيه ذلك يسري على انتشار ما لا يحصى من غرف التواصل الافتراضية التي يكرر بعضها بعضا شكلا ومشاركة ومضمونا، وفيها ما لا يحصى من مواضيع أشبعت بحثا وجدلا واجتهادا وحوارا.. دون بذل محاولة جادة لطرح "مشروع فكري" أو "خطة عملية" لهدف ما، وأقصى ما تصنعه "جولة حوار افتراضي" هو التمهيد لمزيد من " جولات الحوار الافتراضية"، فكأننا نخدّر أنفسنا بأنفسنا.

٢- من صنع العدو: من أبرز ما مارسه شبيحة القلم في مطالع الثورة ومع انتشار صوتها في وسائل التواصل الاجتماعي كان اقتحام عالم الثورة الافتراضي بما استطاعوا من قذارات الشتيمة والبذاءة لتنفير الشباب والشابات الذين وجدوا في الوسائل الحديثة متنفسا حواريا جماعيا ثوريا.. ولم يجد ذلك ما يستحق من الاهتمام لمواجهته بوسائل التوعية والوسائل التقنية على السواء.

شبيه ذلك يسري على تعاملنا السلبي إلى درجة المشاركة عن جهل فيما لا ينقطع من حملات التيئيس والتحريض وحملات التشكيك والترهيب.

٣- من صنع غفلتنا: فور اكتشاف عالم الشبكة للتعويض فيه عن الحرمان من الكلمة الحرة، انتشرت في أوساط أصحاب القلم دعوات اختصار الكلام فنحن أمة لا تقرأ -وليس أمة "اقرأ"- وإذا تجاوز الكاتب بضع كلمات أو بضعة سطور، لن يصل إلى جيل الشبيبة، وقد انزلق معظمنا إلى الأخذ بذلك عطاء وتلقيا، ولا يمكن تصور أن يخدم ذلك تحقيق هدف كبير يتطلب الكلمة السديدة فكرا ورأيا وموقفا وتخطيطا وتقويما وتوافقا على الرؤى والأهداف وسبل العمل ليرتفع مستوى الوعي المشترك، دون الغفلة عما يتطلب تأمين السرية أو التواصل الشخصي المباشر.

شبيه ذلك ما وقع أكثرنا فيه أيضا من الاستهانة بأهمية التعبير عن الثورة بمختلف وسائل التعبير الفنية والأدبية أو توظيف ما يوصف بأيقونات الثورة لاستدامة شعلتها ومفعولها في النفوس.

٤- من صنع نخبنا: مع ازدياد "الصراع" على امتطاء ظهر الثورة من جهة واستشعار أهمية طرح رؤى وتصورات ودراسات وبحوث من جهة أخرى، سارع كل فريق من أطراف الصراع إلى إيجاد "مركز دراسات" لنفسه يحمل عنوان خدمة البحث العلمي لصالح الثورة وشعبها.. ووجد كل فريق من يدعمه تمويلا و"إرشادا" من داخل صفوف الممولين المحليين والإقليميين وعلى المستوى الدولي، فهذا يبحث وذاك يوثق وآخر يحلل، ولكن بقيت الجهود مبعثرة ودون الحاجة الجماعية المطلوبة، حتى أصبح تعداد المراكز المعنية يضاهي عدد الثورات التي صنعها تفرق نخبنا السياسية والفكرية رغم تأكيد انتسابها إلى "ثورة الشعب.. الشعب السوري الواحد".

٥- من صنع ثوارنا: كان لافتقاد الرؤى الجامعة والمشاريع المشتركة والأطروحات الموحدة للصفوف أثره المعروف في التشتت والضياع والفشل، وبدلا من بذل أقصى الجهود للتلاقي على شيء من ذلك كانت التجمعات الثورية الكبرى ومن ورائها "مراكز القوى" للتأثير التوجيهي والتمويلي، يتجاوز بعضها بعضا في صياغة رؤى جزئية ذاتية ومشاريع ترقيعية سرعان ما تحولت كلماتها وما تزال تتحول إلى جدران فاصلة بين الثوار، حتى وهم يشكلون غرف عمليات مشتركة، ويتلاقى شهداء فصائلهم في ساحات العزة.

شبيه ذلك من التعددية المفرّقة -بدلا من التعددية المتكاملة- يسري على ما نشأ أو أنشئ من قنوات تواصل ومؤتمرات حوار، نخدع أنفسنا عندما يزعم أصحابها أنهم "على الطريق" لتحقيق المطلوب، فلو صحّ ذلك لكان حال الثورة اليوم أفضل من حالها بالأمس.

. . .

الأمثلة كثيرة جدا على اغتيال مكانة الكلمة الثورية وقيمتها ومفعولها، وليس المقصود هنا الدعوة إلى "الثرثرة"، ولكن الخطر الأكبر كامن في عدم استشعار خطورة تغييب دور الكلمة في واقعنا عموما وفي مسار ثورة شعبنا تخصيصا.

لقد أصبح معظمنا يبحث عن أسلوب مناسب لطمأنة نفسه، ومن التناقض في واقع تعاملنا الحالي مع الكلمة ما يظهر عند المقارنة بين "الأدعية" و"التوعية":

١- معاذ الله التهوين من شأن الدعاء.. ولكن هل نستشعر أن السميع العليم البصير مطلع على ما نريد من قبل أن نتفوه به، عندما نبدو على الشاشة الصغيرة وكأننا نتبارى على تعريف الناس بأنفسنا، ولا نحرص على "دعاء المظلوم في جوف الليل"؟ وعلام نتبارى على "إطالة النص" تكرارا وسجعا؟

٢- مقابل ذلك.. نتجنب "الإطالة" ونندّد بها، عندما نتوجه إلى جيل الشباب الثائر بنصوص خاطفة ونحن نزعم حاجته إلى القراءة والاستيعاب والفهم والوعي، أليس في سلوكنا هذا ما يساهم في دفع جيل الثورة دفعا إلى نفاذ صبره عند قراءة مقالة تحليلية ناهيك عن بحث ودراسة، ونتخذ من عبارة "عصر السرعة" ذريعة، أو نتدافع المسؤولية بزعم أن عدم الصبر على القراءة جزء من "طبيعة" تكوين الإنسان المعاصر، وغير ذلك من مقولات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تنشر فكرا ثوريا ولا غير ثوري، ولا يصنعه سوانا في هذا العصر ولم يصنعه من سبقنا في عصور مضت.

. . .

إننا نتآمر على أنفسنا وثورات شعوبنا عبر اغتيال مفعول الكلمة أو الإسهام في انتحارها بين أيدينا، فالكلمة هي المفتاح الذي إذا كسرناه فقدنا القدرة على ولوج بوابة التغيير الثوري المستقبلي المطلوب، ولا حتى التغيير الأولي التمهيدي لذلك التغيير الجذري.

أليس هذا بعض ما نفهمه من افتتاح الوحي للتنزيل القرآني بكلمة "اقرأ" تحديدا، وليس بآيات الفاتحة مثلا، ولا آيات الاستعاذة من شياطين الجن والإنس؟

الكلمة هي المفتاح لما سواها على طريق صناعة المستقبل، وإن من لا يقرؤون إلاّ على هامش الهامش من أوقاتهم، ولا يسمعون إلا ما ينسجم مع مزاجهم ويريحهم، يفتقرون إلى العلم والفهم والوعي معا، وبالتالي حتى إلى إحسان استخدام سلاح الدعاء، ناهيك عن امتلاك متطلبات وضع مخطط ناجح، أو بذل جهد مدروس لوحدة الكلمة والصفوف.. فهل نحن جادّون حقا في العمل لانتصار حقيقي في ثورة شعبية؟

نبيل شبيب