رؤية – استهداف تركيا (٣) المخاطر والمآلات

استهداف تركيا لم يبدأ بتعديل دستوري لا يسري مفعوله دون استفتاء شعبي، بل بدأ بظهور الاستقلالية "النسبية" للقرار السياسي الخارجي التركي إقليميا في نطاق الدائرة الغربية الحريصة على الهيمنة عبر أنظمة استبدادية، وهو ما سبق الحديث عنه في مقالة سابقة: استهداف تركيا (١) الأسباب والخلفيات، وقد جاء فيها:

(لا توجد في عصر الثورات الشعبية سوى تركيا في موقع قوة إقليمية خارج نطاق حسابات الهيمنة الدولية، القائمة على "تبعية مباشرة" أو نسيج مساومات ومقايضات) ثم في مقالة تالية بعنوان: استهداف تركيا (٢) إمكانات التحرك، وقد جاء فيها:

(تميزت السياسة التركية بالقدرة على موازنة المصالح وتوظيفها لتحقيق أهداف بعيدة "واجبة" عبر تحقيق أهداف "ممكنة" مرحلية).

وقد بدأ مبكرا ما أصبح في اللحظة الراهنة مكثفا وواضحا، وهو "شخصنة الموقف الغربي من تركيا، عبر توجيه الاتهامات ضد إردوجان تحديدا، والواقع أن (استهداف تركيا يعني "الدولة والشعب والوطن"، أما أن يتحول العنوان عند بعض الناقدين وبعض المؤيدين إلى "استهداف إردوجان" تحديدا، ففيه اختزال يشوّه المتابعة لسياسة تركية مؤسساتية متميزة، تتحرك منذ سنوات في حقول ألغام داخلية وإقليمية ودولية، وتحقق الإنجازات رغم ذلك)

قد يرى بعضنا أن ما يوصف بالنظام الديمقراطي النيابي هو الأفضل من الرئاسي، ولكن ليس هذا هو العامل الحاسم في التعامل مع استهداف تركيا بسبب مسيرتها وسياساتها، وهو موضوع الحديث هنا بغض النظر عن قضية الدستور.. وهو شأن خاص بإرادة الشعب التركي.

 

المشروع الحضاري التركي

إن شخصنة القضية التركية عبر تركيز الغرب على إردوجان مقصودة للفت الأنظار عن استهداف العمل الجاري لاستقلالية تركيا حضاريا وسياسيا، وبالمقابل لا ينكسر الحصار الدولي لسياسة تركيا إقليميا عبر دعم "شخص إردوجان" بل عبر التكامل والتعاون مع "المسيرة التركية" مع مراعاة القواسم المشتركة وعدم جعلها ضحية الاختلاف على التفاصيل.

لا ينفي ذلك أن إردوجان أدّى دوره القيادي بصورة متميزة ولا يزال يؤديه، وهذا مصدر شعبيته وليس العكس، أي ليس صحيحا ما يقال عنه في نطاق العداء لتركيا، بأنه "شعبوي في خطابه" فتأييده مجرّد تأييد "حماسي"، فقد بدأ مع حزب العدالة والتنمية بالعمل على التغيير في القطاعات الاقتصادية والتربيوية والاجتماعية والسياسية وغيرها، واستمر هذا العمل أعواما عديدة بخطوات تدريجية للانتقال بالبلاد خطوة بعد أخرى مما كانت فيه من انحدار وتبعية أجنبية إلى نهوض واستقلالية ذاتية، فازداد بالمقابل التأييد الشعبي لهذا النهج بقيادته، وشمل فئات شعبية لا تنتمي إلى الاتجاه الذي يمثله الحزب وقياداته، وكان أسلوب التدرج لفترة طويلة يشهد "انتقاد" تيارات إسلامية تقليدية خارج تركيا، مثلما يشهد "الإطراء" واعتبارها نموذجا يستحق الاقتداء به.

لا أحد -حتى من خصوم هذا النهج- ينكر بصورة جادة موضوعية الإنجازات الداخلية صناعيا وزراعيا وعسكريا وإداريا، وليس مجهولا أن تركيا أصبحت في مرتبة متقدمة عالميا ولها مكانتها الثابتة في نطاق مجموعة العشرين، ولكن لا يخفى بالمقابل أن المشروع الحضاري التركي لم يجد حتى الآن درجة كافية من التجاوب والتفاعل في "العمق الحضاري والجغرافي" لتركيا بحكم التاريخ وعوامل أخرى، أي داخل نطاق البلدان الإسلامية التي لا تزال في حقبة التخلف عالميا وداخليا.

إن صيغة المشروع الحضاري التركي قائمة على أساس:

١- الإنجاز الذاتي وعدم القطع الفوري لارتباطات موروثة من عهد علماني/ عسكري طويل.

٢- التواصل والتعاون المتزايد مع البلدان الإسلامية لتنمية العلاقات البينية، وتحويل المشروع التركي إلى مشروع تكتلي في عالم التكتلات الدولية المعاصر.

 

تركيا و"مخاطر" الربيع العربي

مرت فترة أولى من حقبة وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة تعاملت تركيا خلالها مع "الوضع القائم" في الجوار الإسلامي، بما في ذلك مسار تعزيز العلاقات مع سورية قبل الثورة ومن خلالها جغرافيا مع المنطقة العربية، إنما فاجأت الثورات الشعبية تركيا ومسارها التدريجي ذاك، مثلما فاجأت قوى دولية وإقليمية أخرى، وبعد محاولات مبدئية لمتابعة تطبيق سياسة التدرج في العلاقات مع المناطق الثائرة بجوار تركيا، لا سيما في سورية ومصر علاوة على الوضع الخاص في العراق، كان لا بد في نظر القادة الأتراك من إعطاء الأولوية لتأييد المطالب المشروعة للشعوب، فمن دون ذلك تضمحل مصداقية الأسس التي يقوم عليها المشروع الحضاري التركي، ولم يكن غائبا عن الأذهان في تركيا وخارجها أن هذا التأييد يواجه مخاطر كبرى بسبب التحرك الدولي والإقليمي المضاد للثورات ولهدفها الجوهري الحاسم: تحرير الإرادة الشعبية من الاستبداد الداخلي والهيمنة الأجنبية.

قبل دخول المنطقة في "عصر الثورات الشعبية العربية" لم يكن سهلا على "أعداء تركيا والثورات" أن يصل استهدافها إلى الصيغة الهجومية العلنية، التي بدأت قبل نهاية فترة رئاسة أوباما في الولايات المتحدة الأمريكية، وتصاعدت في فترة دخول الاتحاد الأوروبي طرفا في مواجهة تعديل الدستور التركي، فمن قبل لم يكن تحقيق التقدم والنهوض في تركيا بحد ذاته "هدفا ملائما" للعداء، كما أن استبقاء علاقات تركيا مع الغرب "الأطلسي والاتحاد الأوروبي" ساهم في "الوقاية" من استعلان العداء، ولكن لم تكن بذور العداء غائبة منذ ذلك الحين، أما أن تصبح "قوة تركيا الذاتية" مصدر طاقة لمسار ثورات تحرير إرادة شعوب أخرى في المنطقة، فهو ما جعل المنظور الغربي (ومنه الروسي أيضا) يستشعر ما يمكن أن تكون إليه مآلات التغيير الجاري، حضاريا، وسياسيا، وأمنيا، واقتصاديا.. حتى أصبح استهداف تركيا مندمجا في استهداف الثورات الشعبية العربية وتحرر الإرادة الشعبية وتقويض دعامات معادلة الهيمنة والتبعية القائمة منذ الحرب العالمية الأولى.

 

احتمالات.. وتكهنات

إن مسار النهوض الاستقلالي التدريجي في تركيا تحوّل في هذه الأثناء من "معركة داخلية" إلى "معركة دولية بذيول داخلية"، من مظاهرها:

١- تعدد أشكال استهداف تركيا وتصعيده (تصعيد حدة مشكلة الأكراد.. محاولة الانقلاب.. استهداف مالي واقتصادي..  حملات عداء إعلامي.. تحرك سياسي علني مضاد لتعديل الدستور.. إجراءات استفزازية سياسيا وديبلوماسيا..)

٢- حصار دولي للمساعي التركية في دعم الثورات الشعبية في المنطقة العربية

٣- الضغوط المضادة لمحاولات بناء محاور إقليمية (لا سيما مع السعودية) لتوازن ما تشهده المنطقة من محاور معادية (إيران وروسيا وما يسمى التحالف الدولي)

أمام هذا المشهد يصبح الجزم بمآلات المعركة الجارية متسرعا عند اقتصار الرؤية على المستقبل المنظور، إنما يمكن التأكيد أن ما يسري على هدف التغيير عبر الثورات الشعبية، يسري على هدف التغيير عبر "المسيرة التركية" التي بدأت قبل تلك الثورات، وهو أن كل تغيير تاريخي وحضاري، يبدأ من نقطة ضعف تجاه القوى المهيمنة عالميا، ولكن انطلاقة العمل للتغيير تجعله محتما، ويبقى عنصر الزمن، أي السؤال هل يتحقق خلال أعوام أم عقود أم أجيال.

وليس عنصر الزمن "عشوائيا" بل يرتبط طول مراحل التغيير حتى يبلغ ذروته بالجهود المبذولة نحو تحقيقه، بصواب منطلقاتها وأساليبها ووسائلها، وبزيادة حجمها من خلال قوى رديفة، وبتعبير أوضح، سيرتبط "موعد" نجاح المشروع الحضاري التركي في تركيا وفي المنطقة بعدة عوامل، في مقدمتها:

١- مدى سرعة نمو بذور الوعي الشعبي وثمراته في بلدان الربيع العربي، وقد ولد في مخاض على امتداد سنوات شهدت مواجهة العداء الخارجي والداخلي علاوة على الأخطاء الذاتية

٢- احتمالات يقظة بعض الأنظمة العربية والإسلامية "المستهدفة أيضا" وإدراك صانعي القرار فيها أن استمرار معادلة "التبعية والهيمنة" وبال عليها وليس على الشعوب فقط، وأن التلاقي الشامل لتركيا على طريق التغيير هو المخرج الممكن من عصر النكبات والتخلف 

٣- ازدياد مؤشرات الضعف الداخلي الذاتي في التكتلات المادية المهيمنة عالميا في الوقت الحاضر، وهذا ما يمكن استقراؤه من واقع الولايات المتحدة الأمريكية حتى من قبل وصول "ترامب" للسلطة، وكذلك من واقع الاتحاد الأوروبي من قبل خروج بريطانيا منه، ومن واقع الاتحاد الروسي منذ سقوطه حضاريا في وحل جرائمه في الشاشان كما سقط الاتحاد السوفييتي من قبل في وحل جرائمه في أفغانستان.

نبيل شبيب