ــــــــــ
تمهيد
النقد البناء واجب، والتناصح المخلص أوجب، شريطة التزام الصدق والنزاهة والأسلوب المناسب مع مراعاة الظروف والتوقيت. وفيما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين كان أول ما نشره كاتب هذه السطور ورقة نقدية بعنوان (الإخوان المسلمون – إصلاح وتجديد أم خلاف وانشقاق) في مركز دراسات الجزيرة يوم ٤ / ١٢ / ٢٠٠٢م ثم واكب أحداثا عديدة تتعلق بالجماعة ومواقفها وسياساتها بقلم ناقد دون تجريح، وهذا ممّا يعتبره واجبا مفروضا على أصحاب الأقلام، تجاه قضايانا المشتركة في بلادنا وعالمنا، بل تجاه عموم قضايا العلاقات بين الناس عموما في هذه المعمورة. أمّا ما يدفع إلى ذكر ذلك هنا فهو ما يستدعي حاليا الكتابة المباشرة عن استهداف الإخوان المسلمين، إذ بات يوجد من يفتري فيرى في مجرد الدفاع عنهم “تهمة”، حتى وإن اقترن بالنقد.
أصبحنا لأسباب عديدة، منها انتشار “الفوضى الهدامة”، نعايش أوضاعا وظروفا شاذة، ولا نرصد سوى القليل من النقد البناء مقابل ما لا ينضب من نقد متحامل، جارح وغوغائي غالبا، لا سيما تجاه كافة ما يحمل عنوانا إسلاميا، أي مع تعميم ظالم لا يقف عند التعامل مع تنظيمات فاسدة مفسدة انتحلت عناوين إسلامية وأجرمت حتى صار سفك الدماء وهدم الأواصر بين الناس ديدن من يقودها ومن يكمن وراءها، وهم من يبرأ منهم الإسلام بأصوله ومقاصده ومبادئه وليس بمحرماته وآدابه فحسب.
ويزيد فوضى النقد الهدّام بلّة أن يستند أي ناقد جاد إلى طرف دولي، ينصب نفسه دون حق في موقع المعلّم والحَكَم على المسلمين وسواهم من البشر والدول والتنظيمات، فيوزع قوائم التصنيفات والعقوبات والإملاءات والمقاطعات، وهو من يستحق في الأصل جميع ذلك وزيادة، جزاء ممارساته العدوانية في كل اتجاه، ويكفي ما يرتكبه لتأكيد انعدام قيمة الوصول بتجاوزاته وبتصنيفاته إلى فريق بعد فريق من أهل بلادنا ومن البشرية حولنا، ولكن من المؤلم أن يوجد من أهلنا من يتعامل مع من يمارسون شرعة الغاب تعاملا يزيد من طغيانهم، بالاستماع لهم وإعطاء ما يقولون قيمة لا يستحقونها، وسيان هنا هل يفعل بعضنا ذلك نتيجة انحراف فيما يفكر ويتصوّر أو نتيجة خوف من أذى وضرر.
هنا يرصد الناقد الراغب في الوصول إلى العقول والقلوب كيف اختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين فأصبح حتى النقد الإيجابي لأي جهة موضع استغلال لدى من يستبيحون لأنفسهم الاستغلال، ولهذا تمتنع بعض الأقلام أحيانا عن قول ما قد يقال دون تردد في أحوال وظروف اعتيادية.
بعض البدهيات حول الإخوان المسلمين والإسلام
١- الإخوان المسلمون جماعة، تنظيم، حزب، تجمع.. يمكن أن نعطيهم أي تسمية، وليسوا هم الإسلام
٢- الإسلام أكبر وأعظم من أي تنظيم ولكن الإخوان المسلمين هم التنظيم الحركي الأكبر والأعرق تاريخيا
٣- ارتكب الإخوان -لأنهم بشر- أخطاء كبيرة وصغيرة قبل الثورات الشعبية وبعدها، يمكن اعتبار بعضها فادحا سياسيا، ولكن ليس بينها ما يبيح وصمهم بالإرهاب وفق المفهوم الغربي المستورد للكلمة
٤- إن ما يستهدفه (الإرهابيون ومن يحاربهم زعما) في اليمن وليبيا وتونس ومصر وسورية وغيرها هو الإسلام كما أنزله الله، لأنه بوسطيته واعتداله والطاقة المبدعة الحضارية الخلاقة فيه يمثل في نظر أعدائه وخصومه ومستغليه الخطر الحقيقي، وهو الأكبر في منظورهم مما يوصف بخطر الإرهاب نفسه بسائر مجموعاته وتجلياته
٥- إن ربيع الثورات الشعبية حمل روحا إسلامية شعبية أعظم من أي هيكلية تنظيمية إسلامية، وينتشر الوهم سياسيا لدى أنظمة إقليمية ودولية أن تقويض بنى هيكلية تنظيمية ذات عناوين إسلامية يمكن أن يؤدي إلى انتزاع تلك الروح الإسلامية من الشعوب الثائرة، بمنطلق حضاري وعقدي.. وهذا مستحيل فالتنظيمات الإسلامية على علاتها واختلافاتها هي من صنع الشعوب ذات الروح العقدية والحضارية الإسلامية، وليس العكس
٦- لا يمكن القضاء على الثورات التغييرية الكبرى بالقوة الباطشة، وإلا لما كان لها أن تندلع أصلا رغم أنف القوة الباطشة من قبل. يدرك ذلك من يواجهونها علنا أو تحت أقنعة دعم وصداقة، ويعلمون أن المسارات الثورية تستمد طاقتها الشعبية من الإسلام عقيدة حضارية عند معتنقيه، وتاريخا إنسانيا حضاريا منصفا عند من يعيشون في أرضه من غير معتنقيه
٧- ما نشهده حلقة من حلقات تاريخية متتابعة، بدأت بحقبة الغزو الاستعماري، وانطوت على حملات الغزو الفكري والثقافي والتربيوي والتعليمي والاجتماعي، وتعاظم مفعولها في عهد ترسيخ الاستبداد والفساد المحليين مع التجزئة والتخلف المعيشي والانحطاط السياسي، وفتحت الثورات -رغم ذلك كله- بوابة مستقبل آخر، فتصاعدت حدّة مواجهة الإسلام من خلال أنظمة استبدادية تقتل الإنسان نفسه وتقتل أيضا جميع “المنظومات” المتمردة
٨ – إن الذين يحاربون تنظيمات إسلامية معتدلة اعتدالا ظاهرا للعيان، إلى درجة تعرضها للانتقاد الشديد من جانب جهات إسلامية أخرى أحيانا، يزرعون اليوم، كما صنعوا من قبل بذور موجات تطرف وتشدد وعنف أخرى، وبهذا المنظور هم مسؤولون عن نشر الإرهاب، وإن اتخذوه ذريعة لمزيد من الاضطهاد.
جميعنا مستهدفون
إن استهداف الإخوان المسلمين حاليا يأتي في حقبة تغيير تاريخي تعاديه قوى مهيمنة عاتية، اغتصبت معظم الطاقات والثروات البشرية ظلما وتعديا، فامتلكت أدوات بالغة التعقيد والتأثير، توظفها لاستهداف كل ما يمت بصلة لتحرير جنس الإنسان وحقوقه وإرادته وكرامته وحتى ضرورات حياته المعيشية، وتستهدف تخصيصا كل ما يمت بصلة للإسلام الحق وتتعمد الخلط بين دعاته وأدعيائه، وعلمائه ومنتحليه، والمخلصين ممن يصيب ويخطئ والمنحرفين ممن لا صواب في قوله ولا فعله، بل أصبح الاستهداف يشمل مع التنظيمات والناشطين والشعوب حتى تلك الأنظمة المستبدة التابعة للأجنبي من أعداء الشعوب، فما يمارسه “كبار” الطواغيت في عصرنا استهداف يراد له ألا يبقي ولا يذر أحدا، ولا يحفظ قيمة إنسانية، أما المستبدون “الصغار” فلا يكاد أحدهم يفقه أنه إن احتضنه العدو اليوم فسوف يعاديه غدا، لمجرد أنه – بعجره وبجره – جزء من واقع بلادنا، وهي مهد الحضارات والأديان والثقافات، فإذا أسقطت الاستبداد واستقامت أوضاعها يمكن أن تحرر البشرية جمعاء من قبضة شرعة الغاب والهيمنة الجائرة.
جوهر الاستهداف
إن استهداف الإخوان المسلمين إقليميا والعمل على استهدافهم دوليا لا علاقة له بأخطاء أو حتى انحرافات في ممارساتهم هم، ولا حتى في فكرهم ودعوتهم هم، ولو جمعنا جميع ما يُتهمون بصنعه من “آثام”، منذ ولادتهم الأولى إلى يومنا هذا لا نجده – على افتراض صحته – يوازي عُشر معشار ما صنعه مستبد مجرم واحد من المستبدين الساقطين السابقين والباقين اللاحقين في بلادنا، وهو يلقى -لأنه مستبد فاجر- الاحتضان والدعم من جانب من يستخدمونه وأقرانه كأدوات مؤقتة، يرث بعضهم بعضا، لأداء مهمته المخزية: ممارسة القهر وترسيخ التخلف للحيلولة دون نهوض شعوبنا وبلادنا من جديد.
إلى جانب استخدام القوة الفاجرة لمنع إرادة الشعوب من التحرر عبر ثوراتها التاريخية أصبح استهداف قضايانا وشعوبنا وبلادنا يتجلى في هذه الحقبة أول ما يتجلى في نشر مزيد من أشكال الفوضى الهدامة والإسهام في تأجيج النزاعات من كل صنف وعلى كل صعيد، وحتى ممارسة الاقتتال (ويوجد في بلادنا للأسف من يقع في الحفرة الواحدة مرارا وتكرارا) وجميع ذلك للقضاء على الإمكانات والطاقات الذاتية بأقل ثمن ممكن بعد أن كان المستعمرون يدفعون بعض الثمن بشريا وماديا في حروبهم المباشرة ضد شعوبنا وبلادنا.
فاليوم استهداف هذا الفريق وغدا ذاك.. وهكذا، فلا جدوى من الخوض مع الخائضين بشأن ما يتهم به الإخوان المسلمون، ولا من محاولة البحث عن أدلة ما على أنهم ليسوا إرهابيين، ولا متطرفين، ولا مستبدين، ولا فاسدين، إلى آخر ما هنالك من اتهامات جاهزة سلفا لكيلها ضد كل من يراد استهدافه.
الرد الواجب
إن الردّ من جانب الإخوان المسلمين وسواهم، على استهدافنا جميعا على خلفية مختلف الاتجاهات التي نتبناها هو الرد المندمج في بوتقة واجبات كبرى مشتركة في هذه الحقبة، وعلى رأسها واجب مواجهة الخطر العدواني الأكبر الشامل للجميع، أمس واليوم وغدا.
بعيدا عن الخوض في لعبة “هجوم ودفاع” و”اتهام وتبرئة” يبقى الرد الأهم المطلوب من الإخوان المسلمين وسواهم، هو العمل على تعزيز القواسم المشتركة، باسم شعوبنا دون تمييز، باسم جنس الإنسان دون تمييز، والعمل على التوافق على قواعد مشتركة للتعامل بين مختلف الفئات والاتجاهات والجماعات، إلى أن تستقر السيادة المرجعية الأولى للشعوب وليس لتصورات طرف أقوى من سواه بأسلوب السيطرة والقهر، وحتى تتوافر مستقبلا “آليات” التنافس النزيه على كسب إرادة الشعوب وليس على تأمين أسباب ارتباط أجنبي إن مارس الحماية لصالح هذا الفريق اليوم فلن يتردد لحظة واحدة عن تركه غدا ليسقط مع انتهاء دوره كأداة وظيفية محضة، في خدمة أطماع هيمنة مادية جائرة لا يسترها ولا يستر بوائقها وما تسببه من الفواجع والمآسي، حديث من يتحدث عن مصالح مشروعة أو واقعية عوراء، ناهيك أن توجد صلة بين الطغيان وبين الحق والعدالة والتحرر والكرامة، فهذا من شأن جنس الإنسان وليس من شأن المستبدين محليا ودوليا.
نبيل شبيب