رأي – هل تستعيد جائزة نوبل للسلام مكانتها؟

لم يعد لجائزة نوبل مفعول كبير كما كان لها من قبل، فلم يعد تقدير من يحصلون عليها سببا في انتشار الاقتناع باستحقاقهم لها وبالتالي في دعم ما عملوا من أجله، كما أنّ محاولة التأثير على مجرى الأحداث من خلالها، وهو ما برز للعيان في السنوات الماضية، باتت محاولة أقرب إلى الإخفاق غالبا، أو على الأقل لم تعد تحقّق ما يتوقعه المسؤولون في أوسلو عن اتخاذ القرار الأخير بصدد الجائزة، وهذا ما يدفع إلى التساؤل ما إذا كانت الحالات المعدودة التي تخلو من الخلاف بصدد استحقاق الحاصل على الجائزة لها، باتت بحدّ ذاتها محاولة لإنقاذ سمعة الجائزة نفسها!..
 
"السلام الغربي" بالإكراه
الدافع إلى هذا التساؤل هو أنّ اللجنة المسؤولة عن منح الجائزة كانت تحمّل نفسها المسؤولية عن تدهور مكانتها، وهو ما بلغ ذروته في السبعينات من القرن الميلادي العشرين، فإلى ذلك الحين كانت تبرز أحيانا أسماء تحصل على تأييد عالمي واسع النطاق عند اختيارها للحصول على الجائزة، كما كان مع المستشار الألماني الأسبق فيلي براندت، الذي منح الجائزة بعد أن قطعت سياسة الانفراج الدولي شوطا كبيرا، نتيجة ثباته عليها في وجه المعارضة الأمريكية الأولية والتردد الأوروبي الظاهر للعيان، حتى أصبحت سياسته واقعا دوليا فرض نفسه على الآخرين. 
ولكن بدأ التساؤل يعلو بصدد الأسباب الموضوعية التي دفعت بعد فترة وجيزة إلى تخصيص الجائزة لوزير الخارجية الأسبق هنري كيسينجر، فرغم اقتران اسمه بسياسة الانفراج بين المعسكرين في حينه، كانت سياسته الرسمية، كما تؤكّد مؤلفاته وكتاباته الصحفية، بعيدة عن "السلام" بمعنى الكلمة، ومرتكزة أولا وأخيرا على البحث عن السبل الأجدى لتحقيق الهيمنة الأمريكية بثمن أقل من "خوض الحروب"، وبقي قبل الجائزة وبعدها من أشدّ المعارضين لسياسات "اللين" مقابل الخصوم، وهو إلى اليوم من دعاة استخدام القوة العسكرية في فرض التصورات الأمريكية عالميا. 
حتى إذا وصلت جائزة "السلام" لسياسيين من أمثال السادات وبيجن، ثم عرفات وبيريس ورابين، بلغ الأمر مداه، ليس بمقاييس الرافضين لسياسة "التسويات السلمية" تجاه اغتصاب فلسطين كليا أو جزئيا فحسب، بل وبمقاييس أنصار تلك السياسات أيضا، والتي كانت حصيلتها وما تزال حصيلة حافلة بالتقتيل والتدمير وخرق حقوق الإنسان وانتهاك حرياته.
. . .
كان الغرض من جائزة نوبل التكفير عن ذنب آلفريد نوبل باختراعاته التي أدّت إلى نقلة نوعية في صناعة أدوات الحرب، فباتت تمنح في ميادين العلوم الطبيعية لمن يحققون إنجازات، الظاهر منها خدمة الحياة البشرية ومسيرة التقدم العلمي، ولكنّ الجائزة المخصصة للإنجازات الأدبية، وكذلك جائزة السلام، أصبحتا مع مرور الوقت أداة تتحكّم في استخدامها المفاهيمُ والمصالح الغربية أولا، فليس المطلوب منهما "دعم السلام" عموما، بل دعم "السلام" وفق التصوّر الغربي بالذات، وبما يحقق مصالح الدول الغربية عالميا، كذلك لم يعد المطلوب دعم الأدب المعبّر عن روح أمّة من الأمم وتطلعاتها المشروعة، بل المطلوب هو دعم الأدب الذي ينشر في مختلف الأمم أفكار الغرب ومناهجه، وإن تناقضت مع تاريخ هذه الأمة أو تلك ومع حضارتها وقيمها ومصالحها.
 
إصلاح أم تحسين سمعة
على قدر هذا الانحراف كانت تنتشر الاحتجاجات ويشتدّ الجدل، ولم تقتصر الانتقادات على من يعتبرون هذا السلوك انحيازا مرفوضا في قضية تمسّهم بصورة مباشرة، كما هو الحال مع الناقدين لجائزة أوسلو من رافضي مسيرة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، والداعين للعودة بقضية فلسطين إلى موقعها الأصيل، بل شملت الاحتجاجات وتشمل كثيرا من الأصوات الحريصة على تحرير القيم في الغرب من قبضة المصالح المادية المحضة. 
لم يكن غريبا في هذا الإطار أن تنشأ إلى جانب جائزة نوبل الرسمية "جائزة السلام البديلة" -وهو تقليد انتشر موازيا لجوائز عالمية ومؤتمرات دولية أخرى عديدة- ويمكن هنا التنويه مثلا بأن جائزة نوبل للسلام عام 1996م، منحت لأفراد من "تيمور الشرقية" بحجة "استعمار إندونيسيا" المزعوم لها وفق النظرة الغربية، بينما منحت الجائزة البديلة لجمعية "أمّهات الجنود الروس" التي كانت -وما تزال- تعارض بشدّة إرسال الشبيبة الجنود من الروس إلى أرض الشاشان في حرب عدوانية. 
وما يقال بصدد جائزة السلام يقال عن جائزة نوبل للآداب أيضا، ولا داعي للتفصيل، فقد أصبحت واقعيا جزءا من الحملة الغربية الشاملة لنشر مفاهيم الغرب وتصوراته واعتبارها هي "العالمية" على حساب مفاهيم "الآخر" وتصوراته، سيّان في ذلك هل تعود إلى عقيدة دينية راسخة، أم إرث حضاري تاريخي، أم معطيات اجتماعية وثقافية متميزة.
ولم تخرج لجنة نوبل للسلام في أوسلو عن المعتاد إلا في حالات نادرة، كما صنعت عام 1997م بمنح الجائزة للحملة الدولية لمكافحة الألغام المضادة للأشخاص، وهي الحملة التي يتحرّك في إطارها أكثر من ألف منظمة وجمعية ورابطة تتعاون في زهاء ستين بلدا للقيام بتحرك مضاد بصورة مباشرة للسياسة الأمريكية على هذا الصعيد، كجزء من تنصلها من المعاهدات والمواثيق الدولية. 
هنا لم تتبدل سياسة لجنة أوسلو في استخدام الجائزة أحيانا لدعم وجهة تطوّرات دولية معينة، إذ لم يكن التجمع قد حقّق هدفه بعد، إنما كانت الجائزة دفعة على الطريق حتى تمّ التوقيع على ميثاق دولي يحظر صناعة الألغام المضادة للأشخاص والتجارة بها ونشرها واستخدامها والعمل على إزالة أكثر من مائة مليون لغم منها في أنحاء العالم يضاف إليها سنويا زهاء ثلاثة ملايين لغم، وتفتك بأكثر من 26 ألف إنسان في العام الواحد، من المدنيين في مناطق النزاعات وفي المناطق التي هدأت فيها النزاعات وبقيت آثارها.
وبدا كما لو أنّ لجنة أوسلو تريد إصلاح سلوكها السابق، وتتمرّد على تأثرها التقليدي بالسياسات الغربية، وإن شاب القرار ما يشير إلى عنصر المواجهة التي بدأت بين الأوروبيين والأمريكيين مع سقوط الشيوعية في الشرق. ولهذا يبقى السؤال مفتوحا، ما إذا كانت اللجنة ستكتفي بحالات استثنائية لتحسين سمعتها فقط، أم أنها ستبدّل سياستها التقليدية، وتصلحها لتستعيد الثقة العالمية بها. 

نبيل شبيب