نُشرت المقالة التالية في مجلة الرائد في العدد الصادر في ذي القعدة ١٣٩٩هـ وأيلول/ سبتمبر ١٩٧٩م، مع مرور عشرة سنوات آنذاك على الانقلاب العسكري الذي أوصل القذافي إلى السلطة، وكان المتسلط على ليبيا آنذاك يتحدّث عن حكم إسلامي زعمه لنفسه، وحكم اشتراكي، كتب عنه، وحكم جماهيري ادّعى أنه البديل عن حكم ديمقراطي.. وهو يمارس على أرض الواقع ما يتناقض مع جميع مزاعمه، ويرسّخ مرتكزات ما قام من استبداد وفساد، فكان لا بد أن يثور شعب ليبيا عليه، كما شهدنا مرارا ثم في الثورة الأشمل والأكبر عام ٢٠١١م.
_____________
ليس الإسلام شعارا
متاهة العناوين
فكر فردي هزيل..
.. وحكم فردي استبدادي
على الصراط المستقيم
ما ذُكر اسم ليبيا على مسمع كافة أهلنا من الجيل المعاصر إلا واقترن في أذهانهم بمعاني الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد من أجل دينه وتحرير المسلمين من المستعمر الخارجي، مثلما تجسّد في طريق عمر المختار، البطل المجاهد حتى اختاره الله فأكرمه بالشهادة وهو في الثمانين من عمره، قبل أن يخرج الاستعمار الإيطالي من ليبيا، ولكن لا يكاد يشكّ مؤرّخ موضوعي في أن جهاد عمر المختار هو الذي خطّ طريق الاستقلال لشعبه بالدماء.
تلك صفحة مضيئة في وجه ليبيا، يمتزج نورها بنور صفحات مضيئة مماثلة لبقية أقطار الوطن الإسلامي الكبير في تاريخه الحديث، ولكن لا يكاد يُذكر اسم ليبيا اليوم في أي مكان، وبأية مناسبة، إلاّ وتساءل العدوّ والصديق على السواء: إلى أين؟
ليس الإسلام شعارا
قد ينظر العدوّ إلى ما يجري في ليبيا ويطرح هذا السؤال، ساخرا حينا، ضاحكا ممّا يجري حينا آخر، أو مطمئنا إلى مستقبل المخططات المعادية لشعوبنا وبلادنا حينا ثالثا.. أمّا المخلص لليبيا فيطرح السؤال ذاته والمرارةُ تحزّ في أعماق نفسه: إلى أين؟
عشرة سنوات مرّت بعد الانقلاب العسكري على الملك إدريس السنوسي، وبقي هذا السؤال ملحّا كما كان: إلى اين؟
ويزداد الشعور بالمرارة، لأنّ كثيرا من المخلصين قد انخدعوا في بداية الطريق، عندما استمعوا إلى الشعارات المرفوعة، من خلال حسن نواياهم هم، ونظروا إلى بعض ما يجري دون بعضه الآخر، ليفسّروه ويؤوّلوه من خلال صفاء طويّاتهم هم، وظنّوا شعار الإسلام هو الإسلام، بل ورأى بعضهم الأدلّة على عكس ذلك، وبقي يحاول إقناع نفسه بأنّه الإسلام وإن رافقه بعض الزلل، حتى انكشفت الأمور على أوضح ما يكون، وتبيّن أن طريق حاكم ليبيا الحالي يمكن أن يؤدّي إلى كلّ شيء ممكن، ما عدا ما يتطلّع إليه المخلصون من قيام الحياة الإسلامية القويمة والحكم الإسلامي الرشيد.. ولكن إلى أين؟
يبقى السؤال، وتبقى في ظلّه أمور ثابتة لم تعد تحتاج إلى نقاش ولا جدال، أوّلها أنّ الحكم القائم في ليبيا قد عطّل السنة النبوية المطهرة، نظريا وعمليا، وعطّل بذلك وسواه العمل بالقرآن الكريم على الصعيد التطبيقي.. ولا طائل من مناقشة هذه النقطة بالذات، فحكم الإسلام فيها بيّن واضح، من أنكر السنة على علم مصرّا على ما يفعل فهو مرتدّ، ومن أنكرها جاهلا وجب عليه التعلم، ولكن جهله لا يعذره فيما يفعل، ولا يُسقط عنه المسؤولية إزاء شعب مسلم، وبلد مسلم، ومستقبل الإسلام والمسلمين.
والنقاش بحد ذاته يجعل القضية وكأنها قابلة للنقاش، ويلفت النظر عن غير قصد عن حقيقة المشكلة القائمة في ليبيا، والتي تبرز أول ما تبرز في أن الحكم القائم فيها لا يختلف من حيث الأساس عن أنظمة الحكم القائمة في معظم البلاد الإسلامية هذه الأيام، بعيدا عن شرع الله، بعيدا عما أنزل الله، بعيدا عما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد يشترك الحكم في ليبيا مع بعض تلك الأنظمة في رفع شعارات إسلامية المظهر للتستر وراءها، وللإمعان في تضليل عامة المسلمين من خلالها، وقد يشترك مع بعض تلك الأنظمة في الميل الأكبر للكتلة الشرقية من دون الكتلة الغربية، ولكنه يتجاوز بعضَها بالتصريح العلني بالتنكر للعمل بالسنة المطهرة، ويختلف عنها جميعا ببقاء السؤال المطروح حوله: إلى أين؟
ذاك نظام حكم شرقي الاتجاه، يعلن الماركسية أو يتستر وراء مختلف الأقنعة، وذاك نظام حكم غربي الاتجاه، يغلب عليه التمسح باسم الإسلام مع الارتباط الأكبر بالغرب ورأسماليته.. أما حاكم ليبيا، فيطرح على المسلمين مسميات جديدة، ويتبع طرقا وأساليب جديدة، ولو أن القضية قضية فرد أو أفراد أو حتى قضية حزب من الأحزاب أو حركة من الحركات، لهانت بعض الشيء، ولكنها قضية شعب تتيه به تلك المسميات والأساليب في شتى الاتجاهات، وقضية بلد مسلم فيه ما فيه من خيرات وطاقات، تجرّه تلك المسميات والأساليب إلى مستقبل أبرزُ ما يتضح منه، أنه مجهول المعالم، لا تُعرف له هوية، ولا يُتوقع فيه استقرار، فيبقى السؤال: إلى أين؟
متاهة العناوين
إلى أين يمضي الحاكم بليبيا مع النظرية الثالثة، في عصر الجماهيريات، ووراء الكتاب الأخضر؟
إلى اين يمضي بشعب ليبيا ابتداءً بما يسمى الديمقراطية المباشرة، مرورا باللجان الثورية واللجان الشعبية ولجان العنف الثوري والمؤتمرات الشعبية الصغيرة والكبيرة، انتهاء -مؤقتا- باحتلال السفارات بعد احتلال المصانع والمساكن والجامعات؟
إلى أين يمضي بأرض ليبيا، بطاقاتها وثرواتها واقتصادها، وراء اشتراكية “شركاء لا أجراء”، و”البيت لساكنه”، و”الأرض لا يملكها أحد”.. بعد إعلان “القومية هي الإنسانية” وأن “الدين دين العرب”، ومع إثارة الحملات بعد الحملات، وسط فورة هائجة تلي الأخرى، ابتداءً بإدارة عمال المستشفيات لشؤون التطبيب وتأمين الدواء، مرورا بالحملة الإرهابية على خطباء المساجد والعلماء، انتهاء -مؤقتا- بتكوين “جيش أخضر” يُجند له الشباب بلا ميزان ولا نظام ولا ضابط من الضوابط؟
لو أردنا الاستمرار في التساؤلات لما انتهينا، ولو أردنا الاستشهاد ببعض الوقائع التفصيلية المضحكة المبكية لبلغ بنا العجب مداه، ولسنا من الذين ينساقون وراء حملات إعلامية دعائية داخلية أو عدائية خارجية، كما أننا لسنا ممن يقبلون الانسياق وراء كل جديد لمجرد كونه جديدا مهما كان خطير النتائج وخيم العواقب، ولا من الذين يرفضون كل جديد لأنه جديد، دون النظر فيه وإدراك أبعاده، ولا نريد التفصيل في كل صغيرة وكبيرة خلال هذه الوقفة العاجلة مع ليبيا بعد مرور عشرة أعوام على الانقلاب العسكري، إنما نعود لأصل القضية، ونتساءل عن نوع هذا الحكم القائم تحت شعار “حكم الشعب لنفسه حكما مباشرا”، باسم النظرية الثالثة وعصر الجماهيريات والكتاب الأخضر.
فكر فردي هزيل..
أما أن هذا الحكم ليس هو الحكم الإسلامي المنشود، فأمر مفروغ منه في نظر كل مسلم يقدّر الأمور بتجرد وموضوعية، انطلاقا من كتاب الله عز وجل، ولكن طالما أنّه ليس “حكم الله كما أمر الله”، هل هو فعلا “حكم الشعب كما يريد الشعب؟
هنا أيضا لا حاجة لتفصيل طويل.. بل ننظر إلى الأمور من زاويتين، الزاوية الفكرية، والزاوية التطبيقية.
هل الفكر القائم وراء الحكم الممارس هو فكر الشعب بمجموعه أم فكر فرد من أفراده؟
وهل لأي فرد من الأفراد حق الوصاية على الشعب، وهو يرفض في الوقت نفسه أن يكون “للمجالس النيابية المنتخبة” أو “الأحزاب الشعبية” مثل ذلك الحق كما يقول كتابه الأخضر؟
إنه ينتقد أشد انتقاد سائر الأنظمة القائمة في عالمنا اليوم، محقا في غالب أقواله، بأنها أنظمة ديكتاتورية مقنعة تحت مختلف الأقنعة، فماذا يقال في فكر فرد يقول عن فكره إنه “ليس محل نقاش أو خلاف” وإنه “لا يختلف عليه اثنان عاقلان”، وإنه ليس هناك تصور آخر لمجتمع ديمقراطي على الإطلاق غير هذا التصور” وإنه الفكر الذي به “تنحل مشكلة إدارة الحكم بداهة”.. وهذا ممّا ورد في الصفحات ٢٩ و٣٠ و٤٨ و٣٣ من الفصل الأول من كتابه الأخضر.
إنّه فكر فردي، ابتدعه فرد، واعتبره فكرا مطلقا بالبداهة، وحرم النقاش حوله، ومضى إلى ممارسة سائر الوسائل والأساليب المختلفة لتطبيقه في حكم الشعب.. فهل هناك أبعد من هذه الديكتاتورية الفردية الفكرية في الحكم؟
.. وحكم فردي استبدادي
ما يقال في القضية من زاوية فكرية يقال من الزاوية التطبيقية.. فكل ما جرى ولا يزال يجري في ليبيا يجري بإيعاز من الأعلى، حتى المؤتمرات الشعبية واللجان ذات المسميات المختلفة، صدر الأمر بتكوينها من الأعلى، ولو أراد الحاكم استبدال سواها بها فليس يوجد أمام الحاكم الفرد مانع واقعي يحول دونه ودون ذلك متى شاء وكيفما شاء، ولكل فرد في ليبيا الحق والحرية لقول ما يريد، والمطالبة بما يريد، وانتقاد ما يريد، نعم.. ولكن شريطة ألا يقول ما يناقض فكر الحاكم، ولا يطالب بغير ما ابتدعه الحاكم، ولا ينتقد ما يستقر عليه رأي الحاكم، فهل هذا حكم الجماهير أم حكم الحاكم الديكتاتوري؟
وما الفرق بين هذه الصورة التطبيقية للحكم وبين الصور المختلفة لأنظمة الحكم الديكتاتورية، تحت شعارات الديمقراطية الغربية، كما هو الوضع في مصر، أو تحت شعارات الماركسية الشرقية كما هو الحال في عدن، أو تحت شعارات “أمارة المؤمنين” كما هو الحال في الرباط؟
ما الفرق بين هذا الحكم الديكتاتوري وسواه، إلا في إبدال اسم “المجلس النيابي” باسم “المؤتمر الشعبي العام”، واسم “خلايا الحزب الواحد” باسم “اللجان الثورية والشعبية ولجان العنف الثوري”، واسم الملك أو رئيس الجمهورية” باسم “الأمين العام”؟
على الصراط المستقيم
أما الإسلام فيعرفه المخلصون في ليبيا وسواها، إنه دين الله المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، قرآنا وسنة، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، بالحق.
مصادره بينة، وأسسه بينة، وطريقه المستقيم واضح، وكل ما سواه من السبل المتشعبة التي لا ترضي الله عز وجل، ولا يستقر عليه أمر المسلمين ولا أمر البشرية.
إنه دين الحرية الحقيقية بالعبودية لله وحده، وتقبل شرعه وحده، وكل ما سوى ذلك مقبول أو مرفوض بميزان الإسلام، وما رسخه من أجل الإنسان.
إنه دين الكرامة الإنسانية دون تمييز، والحقوق المصانة للجميع، ودين وحدة المؤمنين جميعا، عربيّهم وأعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، على الأخوة والتكافل والتعاون.
إنّه دين العدالة الإلهية التي لا يُظلم بها إنسان، والمساواة الحقيقية التي لا تفاضل فيها إلا بالتقوى، والجهاد في سبيل الله للدفاع عن حرية العقيدة، وتبليغ الدعوة، ولحماية شريعته، ورفع كلمته في الأرض والخلق.
إنّه دين الخير، كل الخير، للبشرية جميعا، ودين الفوز برضوان الله وجنة الخلد لمن آمن به واتّبعه.
وإننا لنطالب حكام ليبيا بما نطالب به حكام المسلمين جميعا، بالعودة إلى الإسلام كما أنزله الله، وإقامة الحياة الإسلامية والحكم الإسلامي على القرآن العظيم والسنة المطهرة.. وإننا على يقين بأن أبناء ليبيا وسواها في كل مكان، إذا رُفعت عنهم القيود، وأعيدت إليهم الحريات والحقوق، فأبصروا واقعهم وزالت الحوائل بينهم وبين معرفة الإسلام، فلن يختاروا سوى الإسلام منهجا للحياة والحكم، يسيرون به قدما نحو الحرية والكرامة والوحدة والتقدم والنصر المؤزر والفوز الكبير.
{وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون}.
نبيل شبيب