رأي – لا نهاية للتشريد إن توقف العمل للتحرر

أثناء كتابة هذه السطور كان الجدال الأوروبي محتدما على أعلى المستويات السياسية وفي وسائل الإعلام، ويدور حول مأساة المآسي في تاريخ “كوارث اللجوء” الكبرى‎، وواكب الجدال مشاهد ترحال برا، مشيا على الأقدام غالبا، وركوبا على متن الموت أحيانا، عبر تركيا واليونان ومقدونية وصربيا والمجر والنمسا ثم -غالبا- إلى ألمانيا، كما احتدم الجدال حول ما تصنعه الحكومتان البريطانية والفرنسية لمنع “ثلة” من المشردين من عبور النفق ‎الواصل بين اليابسة الأوروبية والجزر البريطانية، ثم تسمّرت العيون والألسنة عند ذلك المشهد المفجع المفزع (يوم ٢٧/ ٨/ ٢٠١٥م) مع اكتشاف شاحنة هجرها سائقها على قارعة طريق نمساوية، وكانت “حمولتها” زهاء سبعين جثة لمن كانوا بشرا يطلبون الحياة في أمان.

ولا يتعرض ‎الجدال لجذور البلاء، كيلا يدور حول واجب استئصاله، والجميع يعلم أن ‎هؤلاء المشردين شرّدهم عن بلدهم سورية إجرام أسدي وهمجية ميليشيا إيرانية ومكر روسي يسلح القتلة ويحميهم.. وللروس خبرة في ممارسة حروب الإبادة والتشريد، لعشرات السنين بين القرم والشاشان.. ثم تبقى قائمة المسؤولين عن مأساة التشريد الكبرى طويلة، لا تنقطع قبل أن تشمل واشنطون وقد أصبح هوسها بحرب الدواعش قناعا يغطي عورة ما تمارسه من سياسات على حساب الشعب الثائر والمشرد.

كان من المفروض أن تركز هذه السطور على تلك الهجرة البرية الأكبر حجما مما عرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية.. ولكن كان لا بد من مشهد آخر يذكر بالتشريد وضحاياه عبر طرق أخرى، فورد أثناء كتابة هذه السطور (يوم ٢٨/ ٨ / ٢٠١٥م) خبر موت العشرات، وربما المئات نتيجة غرق قاربين غادرا السواحل الليبية للتو، فوصل معظم ركابهما إلى قاع البحر بدلا من “الأرض الأوروبية الموعودة”.

وقد تحدث أحد الناجين لإذاعة ألمانية فقال إن المشردين كانوا يعلمون بانتشار وصف “طريق الموت” على “قوارب الموت” عبر “القبر” الأبيض المتوسط.. ولكن سلكوا هذا الطريق هربا من موت يواجهونه يوميا في سورية.. وقد قدّرت مفوضية اللاجئين  تعداد من “سلك” معابر الموت هذه بثلاثمائة ألف “إنسان” أو يزيدون، خلال الشهور الماضية من هذا العام الميلادي.

. . .

الألم يخط أخاديد عميقة في القلب، إنما الألم الأكبر سنواجهه إذا ما ساقت الفواجع والآلام والكوارث السوريين أو كثيرا منهم، من سياسيين وغير سياسيين، للانزلاق نحو تحويل قضية سورية، من مسارها الثوري التغييري إلى مجرد “مشكلة إنسانية”، مثلما صُنع بقضية فلسطين منذ أصدرت الأمم المتحدة قرارها الشهير رقم ١٩٤ حول “حق العودة” يوم ١١/ ١٢/ ١٩٤٨م، أي بعد يوم واحد من صدور “البيان العالمي لحقوق الإنسان”، عن الأمم المتحدة ذاتها، التي شكلت الآن “لجنة جديدة” بشأن القتل الكيمياوي في سورية، كتلك التي دعا القرار إلى تشكيلها قبل أكثر من ٦٦ سنة  لتأمين عودة المشردين في النكبة الأولى بفلسطين.. والمنطقة.

إن وأد حق التحرر بخنقه في آلام المعاناة هو الخطر الأكبر الذي لا يجوز لنا الإغفال عنه بحال من الأحوال، بل كان هذا هدفا من أهداف الإجرام الأسدي الإيراني الروسي، منذ البداية.. ويجدون عليه أعوانا الآن.

. . .

عندما يناقش الأوروبيون حاليا باهتمام غير مسبوق كيف يتعاملون مع هذه “المشكلة”.. يمكن تسجيل محورين اثنين:

المحور الأول: اتجاه يتفق تماما مع نزع مشروعية تحرير إرادة الشعب في سورية بتحويله إلى “إرهابي” و”مقاتل” و”مشرد عاجز” و”سياسي فاشل”.. هذا مع ربط  مأساة التشريد بالعمل لتوطين ذوي الخبرات والكفاءات في بلدان يتناقص عدد سكانها الأصليين وتزداد فيهم نسبة المسنين، كألمانيا.. وهذا “توطين معيشي” يذكّر بالتعامل مع المشردين عن فلسطين قبل النكبة العسكرية الثانية (١٩٦٧م) وبعدها، ثم لم تمض سنوات إلا ووقعت النكبة السياسية الأعظم عبر منحدر كامب ديفيد وما تلاه من عواقب وصلت الآن إلى أفاعيل السيسي وحصار غزة.

إن صناعة مزيد من التشريد والمعاناة، سنة بعد سنة، لم تمنعها عقود سلام.. ولا أوهام الواهمين بحقن الدماء بالتخلي قطعة بعد قطعة عن هدف تحرير الأرض.

المحور الثاني: محور جدال ينسجم مع مسلسل “تحصين” الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، وقد بدأ تنفيذ ذلك في سبتة ومليلة على الأرض الإفريقية تحت السيطرة الأسبانية.. ويشهد هذه الأيام كيف يقام “سور منيع” على حدود المجر، ومن محطاته ما كان قبل أشهر معدودة في قمة أوروبية قررت واقعيا “الحرب” ضد “عصابات تهريب البشر”، وهي بغالبيتها -دون ريب- عصابات تستغل الأوضاع الراهنة أبشع استغلال على حساب حياة المشردين وعذاباتهم، ولكن ليس المطلوب في هذا الجدال الأوروبي “إنقاذ المشردين” وإلا وجب إيجاد طرق آمنة لطلب اللجوء، بل المطلوب منع المشرد من الوصول إلى الأرض الأوروبية أصلا.. وصحيح أن التوقعات بلغت حد “المليون” خلال مجموع عام ٢٠١٥م، لألمانيا فقط، ولكن هذا رقم “مخيف” للأوروبيين، رغم علمهم بأرقام التشريد في لبنان والأردن وتركيا.

المطلوب ما بين هذين المحورين في أوروبا هو التوصل إلى استخراج ما يحقق منفعة ذاتية فقط.. ولم تعد الصفقات السياسية مختلفة كثيرا عن الصفقات التجارية رغم المواثيق الحافلة بالمبادئ والمثل كالبيان العالمي لحقوق الإنسان المشار إليه.

المطلوب أن يكون أصحاب الكفاءات من فئة الأعمار الواعدة بالعمل والإنجاز، هم النسبة الأعظم ممن ينجو من الموت في بلده وفي طريق التشريد ويصل إلى أوروبا، هذا مع تحصين الحدود الجغرافية وتحصين الحدود القانونية والسياسية والمالية.. وسيان بعد ذلك  من الإنسان الأحوج فعلا إلى “أرض تؤويه وأسرته”.

. . .

كلا..

تقال هنا جوابا على من يتبادر لذهنه أن السطور السابقة “تلوم” الأوروبيين إذ يمارسون سياسات المنفعة الذاتية.. ثم إن اللوم لا يفيد، إنما نحتاج نحن السوريين إلى إدراك أبعاد المأساة الحالية، فهي مأساة إنسانية كبرى.. وقضية ثورية وسياسية، ولا ينفصل هذا عن ذاك.

سيان ما يصنع الغرب والشرق والعدو والصديق مع مسؤوليته الأخلاقية والسياسية عن “جنس الإنسان”.. فما نحن فيه يحمل مسؤوليته أيضا.. بل قبل سواه من يتذرع بالعجز، أي:‎

كل سوري سياسي عاجز.. إذا بقي متشبثا بما هو عليه رغم ظهور عجزه..

كل قيادي ميداني ‎عاجز.. إذا بقي يتدافع مع “أخيه” المسؤولية عن عدم توحيد صفوف المقاتلين..

وكل عاجز وهو صاحب قلم أو يتصرف بوسيلة إعلامية وكل كذلك صاحب القدرة المالية، عندما يسخر ما بين يديه “فقط” لخدمة اتجاه أو حزب أو ارتباط خارجي أو مصلحة منفعية.. وهذا في مرحلة حاسمة تفرض التلاقي على قواسم مشتركة وتأجيل كل خلاف مهما كان شأنه إلى ما بعد “إنقاذ الإنسان” من همجية الإجرام..

أما أن نغفل عن أنفسنا جميعا، ونشكو سوانا، فنحن آنذاك شركاء فيما تصنعه جريمة العصر بشعوبنا وبلادنا وقضايانا، على أيدي من تتجسد جرائمهم الهمجية في “براميل متفجرة” أو تتجسد في “قرارات ولقاءات وتصريحات وممارسات سياسية” يتحول الإنسان والمآسي الإنسانية فيها إلى مجرد “ورقة عمل” في ثرثرة مؤتمر.

نبيل شبيب