موسكو جزء من المشكلة أكثر من طهران، فليس لإيران موقع دولي، كما أنها أصبحت "قوة" معزولة إقليميا من قبل اندلاع الثورة الشعبية في سورية، عبر تحوّلها إلى ممارسة سياسات طائفية رغم شعارات "الممانعة" و"المقاومة"، وهي عاجزة عن تحقيق أهدافها دون "حلفاء" طائفيين، كالنظام الأسدي منذ نشأته الأولى، ودون "مظلة دولية" وجدتها في موسكو وبكين، وهذه مظلة حماية مشروطة، فلا مصلحة للدولتين في نشأة نفوذ إيراني في أواسط آسيا ولا في تسلّحها بما يهدّد نفوذ الدولتين إذا ما سقط النظام الإيراني الحالي -وما عاد سقوطه مستبعدا- فانتقل السلاح المتطور إلى سواه.
. . .
موسكو هي الجزء الأسوأ والأخطر من المشكلة، وهذا ما يجب وضعه "منطلقا أساسيا" من جانب من يتعامل معها بمنطق أنها جزء "اضطراري" من الحل، كما يروّج حاليا بعض أطراف ما يسمى "المعارضة"، وحتى بعض الثوار الميدانيين الذين يعايشون مباشرة دور الأسلحة الروسية الصنع والسياسة الروسية الدولية، فيما يرتكب من جرائم أسدية.
لا يكفي اللعب بورقة "المصالح" مع موسكو، فللمصالح "المادية" أهميتها ولكنّ حجمها في العلاقات الروسية-الأسدية ضئيل محدود بمقارنته مع حجمها عالميا. والأهمية الأكبر بالمنظور الروسي للمطامع "الأمنية"، فإيران وسورية آخر المنافذ الروسية في صراع النفوذ مع القوى الغربية في اتجاه الجنوب (المياه الدافئة وفق المصطلحات التاريخية الروسية) كما ينطوي عنوان المطامع الأمنية على ما يُصنف في خانة "التوافق الدولي" ويوصف بالإرهاب، الذي يختزل ألوان العداء (مع استغلال حالات معروفة من ممارسة العنف غير المشروع) تجاه إرهاصات المفعول السياسي والحضاري للإسلام.
. . .
هل يمكن العثور في هذا الإطار العام على معالم أساسية لصياغة السياسة الثورية في التعامل مع موسكو (وسواها)؟
ليست الإجابة سهلة دون تفصيل، ولكن يمكن تحديد محدّدات كبرى للتفكير والتدبير، وأهمها:
أولا: استمرارية الثورة.. فلا يجوز أن تتوقف فعاليات الثورة إلا بعد اندحار بقايا العصابات المتسلطة، وترسيخ دعامات بناء الدولة المنبثقة عن الثورة.
إن انقطاع مسار الثورة هو المطلب الدولي الأول تحت مختلف العناوين، مثل خانة "حل الأزمات" والخروج من "حرب أهلية"، ولهذا نشطت حملة التيئيس من النصر، وانتشر استخدام هذه المصطلحات سياسيا وإعلاميا، لتزوير ماهية "الثورة الشعبية"، لعلم الجميع أنّ الثورة الشعبية تحديدا لا يوجد "حل" لها سوى الانتصار بتحقيق أهدافها، والبديل هو "اغتيالها".
ثانيا: نهاية العهد الأسدي.. فلا يشارك في تسيير المرحلة الانتقالية إلى ما بعد سقوط الاستبداد، إلا من ربط نفسه بالثورة الشعبية قلبا وقالبا، وهي التي اندلعت لإسقاطه.
إن كل مساومة على تحقيق هذا الهدف الأول والحاسم للثورة الشعبية، مساومة مرفوضة، إذ تعني عدم تحقيقه، وزرع العقبات دون تحقيق ما يليه من أهداف الثورة. ومحور المساومات هنا هو "مشاركة جزء من بقايا النظام في تسيير المرحلة الانتقالية"، والهدف استبقاء عناصر تقبل بارتباطات دولية. إن سلامة مسار الثورة لا تتحقق بإقصاء "من تلوّثت أيديهم بالدماء" فقط، فالآخرون قد ينجون من الملاحقة القضائية، ولكن لا يصلحون للمشاركة في "صناعة" دولة الثورة خلال المرحلة الانتقالية، ولئن بقي لهم حق مشاركة ما في تلك الدولة، فلا مجال مأمونا لذلك إلا بعد استقرار دولة الثورة فقط.
ثالثا: سيادة الإرادة الشعبية.. وتطبيق هذا المبدأ هو جوهر ما تعنيه المواطنة دستوريا دون أي استثناء يفرق بين أطياف الشعب الواحد بدعوى حماية فريق ضدّ آخر.
إن السيادة تشمل الحرية من كل منفذ من منافذ عودة الاستبداد ومن كل منفذ من منافذ الوصاية أو الهيمنة أو المشاركة الخارجية في صناعة القرار، ومن كل منفذ من منافذ "التجزئة والتفرقة"، بذريعة "حماية الأقليات" و"المحاصصة" وكذلك عبر "قوات دولية" أو مخططات "تمويل دولي لمشاريع الإعمار". جميع ذلك ينتقص من سيادة الإرادة الشعبية، وجميع الحقوق والحريات منوطة بالدستور الوطني وتطبيقه، أما فتح أبواب الاستثمار الدولي وحرية التجارة فمشروط بسيطرة الإمكانات الذاتية على مفاصل البنية المالية والاقتصادية الوطنية.
. . .
يمكن وصف هذه البنود (ويوجد سواها) بالخطوط الحمراء أيضا، وبتعبير آخر:
ليست المشكلة مشكلة حوار مع طرف من الأطراف، إنما هي قضية مادة الحوار، وكيفية الحوار، وقدرة الطرف المحاور، على رفع مستوى صموده وإنجازه في المعركة السياسية ليقترب إلى مستوى صمود أبطال شعب الثورة على أرض الوطن وإنجازاتهم.
تلك هي السياسة التي توصف بفن الممكن، ففحواها هو إمكانية بلوغ الأهداف الجليلة بسلوك الطريق الصعبة إليها رغم الواقع المعادي دوليا.. ولا تستحق هذا الوصف سياسة تعمل على تخفيض المستوى الثوري العالي رغم الإجرام الاستبدادي، إلى حدود مستوى أداءٍ سياسي ضعيف، استجابة لضغوط العداء الدولي، ومنه العداء الروسي.
نبيل شبيب