عسكرة السلطة كارثة في السودان وسواه

الثورات العربية ثورات شعبية ضد عسكرة السلطات

رأي

يحار القلم كلما اضطر إلى تكرار محاولة الإقناع ببدهيات ثابتة منطقا ودراسة وتجربة، مثل البدهية التي يشير إليها العنوان، أن كل شكل من أشكال عسكرة السلطات في دولة من الدول هو كارثة، أو قنبلة موقوتة، يمكن أن تسبب الانفجار بصورة من الصور، وبأي وقت من الأوقات، كما هو الحال في صراع القيادات العسكرية مع بعضها البعض في السودان، على حساب السودان، وأهل السودان، وحاضر السودان ومستقبله، ولا ينفرد به هذا الوضع الكارثي، فمنذ اختراع الانقلابات العسكرية في سورية لم ينقطع الوضع الكارثي فيها إلا لِماما، ويسري هذا على مصر منذ انقلاب ١٩٥٢ وإن سمّوه ثورة، وما هو بثورة، بغض النظر عن هشاشة الوضع السابق، بل أدّى الانقلاب إلى عسكرة السلطة لعقود، حتى واجهت عام ٢٠١١م ثورة شعبية حضارية كبرى، مع أخواتها من الأقطار العربية.

لا يوجد لأي تحرك يتضمن العسكرة مبررٌ عقلاني ولا موضوعي ولا من باب الضرورات تبيح المحظورات، لا باسم توجهات إسلامية ولا علمانية ولا قومية ولا سواها، ومن ذلك ما بات يتردد في السودان وتردد في سواه، كأنه كلام منطقي وما هو بالمنطقي، من أن واجب القوات العسكرية هو حماية البلاد والشعب من الأخطار الخارجية و”الداخلية”، وليس هذا صحيحا، ففي الدول التي تختار الشعوب فيها القيادات السياسية، تتولى تلك القيادات المدنية، صناعة القرار العسكري المتعلق بالحرب والسلام لدفع الأخطار الخارجية، وتنفذه القوات “المسلحة” من ثروات الشعب، كما تتولى القيادات المدنية السياسية المنتخبة تشكيل أجهزة أمنية للتعامل مع الأخطار الداخلية، وفي الحالات الاعتيادية دون شذوذ، تكون تلك الأجهزة ذات قيادات أخرى وتحمل أسلحة أخرى وتخضع لتدريبات أخرى، فهي ما لم تتعرض لعسكرتها الانقلابية أو الاستبدادية، لا تصل إلى درجة استخدام الدبابات والطائرات داخل الحدود، كما يجري الآن في السودان وسبق أن جرى في سورية والعراق ومصر وغيرها.

كذلك يتردد كما لو أنه كلام منطقي وما هو بالمنطقي أنه في حالات الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لا بد من مشاركة زعامات القوات العسكرية في فترة انتقالية، وفي حوار يوصل إلى صيغة سياسية وحقوقية مدنية، ومن المستحيل أن يجري حوار سليم، على قدم المساواة، عندما يشارك فيه من يحملون السلاح تحت الطاولة أو يمتطون ظهور الدبابات في الشوارع ويستخدمون الطائرات أو يملكون إمكانية استخدامها في الأجواء.

مهما بلغت الخلافات بين الساسة المدنيين حتى وإن لم يفقهوا في السياسة شيئا، فهي أهون من كوارث العسكرة وما تسببه على حساب البلاد وأهلها.

وكل من يستعين بالعسكرة من المدنيين يشارك في صناعة الكارثة، وكل من يحاول تبرير العسكرة فكرا أو إعلاما أو تضليلا سياسيا هو شريك في ارتكاب جريمة الكارثة على حساب البلاد وأهلها.

وكل من يحرص على ثغرة دستورية لتمرير العسكرة، فيستخدمها أو يساهم في صنعها أثناء عملية التغيير في بلد من البلدان فهو يشارك في فتح الأبواب أمام الكارثة على حساب البلاد وأهلها.

وكل علماني يتغنى بالدولة المدنية في صراعه مع الآخر، ينافق على الشعب في بلده عندما يفضل الاعتماد على العسكرة ضد منافسيه من أصحاب الاتجاه الإسلامي أو سواه.

وكل إسلامي يزعم أن تبني الاتجاه الإسلامي يبرر العسكرة كما حدث في السودان، في صيغة انقلاب عسكري أو أي صيغة أخرى، ينافق على الشعب أيضا، فما عرف الإسلام ذلك، لا سيما في حقبة الخلافة الراشدة التي يعود إليها معظم من يتحدث بالسياسة من الإسلاميين، فما كان القادة العسكريون أمثال خالد وأبي عبيدة وابن العاص وابن حسنة فوق القادة السياسيين المدنيين كما في توجيه الجيوش للفتوحات أو في قضايا التعيين والعزل، كما تشهد صلاحيات أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله تعالى عن هؤلاء وأولئك.

ويؤكد ذلك أن حظر عسكرة السلطة لا يتعلق بتكوين الدولة الحديثة فقط، بل يعود بالأساس إلى التزام المنطق السياسي في بناء الدول، قديمها وحديثها، فمن يلتزم بذلك يجنب نفسه وأهله وبلده الكوارث ومن لا يفعل يحمل المسؤولية عن تلك الكوارث كليا أو جزئيا، وعن ضحاياها من أهل البلاد وعن نتائجها الأخرى كتدمير الثروات وزرع الأضغان والقضاء على أسباب التقدم والرقي على كل صعيد.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الجيشالسودانالسياسة