أصبح ترامب رمزا لظاهرة عنف محاولات مضادة لمستقبل الوجود الإسلامي في الغرب، وقد سبقه سواه خلال العقود الثلاثة الماضية، تطرفا يمينيا، وحملات إعلامية، وسياسات خاطئة، وافتراءات متنوعة.. وهنا لا ينبغي أن يغيب عن أبصارنا أن المشهد قبل عقود كان جهلا عاما بالإسلام وافتراءات لا تجد من يجيب عليها، والمشهد الآن هو أن التحرك المضاد للافتراءات تحرك مجتمعيّ واسع النطاق.. ويبقى السؤال:
ما الذي يمكن للمسلمين الموجودين في الغرب أن يصنعوه؟
هل نتخلص من أخطائنا الجسيمة التي دار معظمها حول محورين اثنين: (١) ردود الأفعال السلبية بدلا من المبادرات الإيجابية نتيجة عدم استيعاب متجدد لأبعاد المشهد المتطور باستمرار (٢) تسهيل استهدافنا، عبر عزل أنفسنا، من خلال التركيز على المواجهة بعدد قليل وعتاد ضعيف بدلا من اكتساب الأنصار ورفع مستوى الكفاءات.
وتوجد محاور أخرى عديدة لا تتطرق هذه “الخواطر” الموجزة لها، مثل الاختلافات البينية وعوامل الضعف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومفعول التناقض الموهوم بين واجب مفروض تجاه الإسلام والمسلمين عموما، والمسؤولية الناشئة عن إقامة مؤقتة أو مواطنة دائمة في بلد غالبيته من غير المسلمين.
استيعاب مشهد متطور
أمثلة على عدم استيعاب المشهد بمجمله:
المثال الأول: عندما أقدم قبل سنوات اليميني المتشدد فلدرز في هولندا على إنتاج فيلم مسيء، تكرر أسلوب التعامل مع إساءات سابقة، فضجت أعداد كبيرة من المسلمين ضد هولندا، وطالبوا بمقاطعة بضائعها، وملؤوا العالم الافتراضي بحملاتهم عليها.. ولم نكن نرصد -كما ينبغي- أن شأن فلدرز كان صغيرا محدودا، وقد تبرأت منه الأحزاب ذات الاعتبار، وكذلك رئيس الوزراء الهولندي آنذاك، ورفضت المؤسسات الإعلامية الهولندية نشر ذلك الفيلم.. وبدلا من التواصل مع فريق كبير من غير المسلمين بدأ يدافع عن الإسلام والمسلمين، كان الهجوم المضاد الشمولي دون خطوات مدروسة تالية” على هولندا وساستها وأحزابها وأهلها..
المثال الثاني: كان عالم الإعلام ونشر الكتب ومناهج التدريس في الغرب قبل بضعة عقود سلبيا “كلّه” وكانت الافتراءات تجاه الإسلام والمسلمين حلقة من حلقات إرث تاريخي طويل، ولكن العقود الثلاثة الماضية وجدت تطورا ملموسا، فأصبح في الساحة إيجابيات وليس سلبيات فقط، وبات في “النخب” الثقافية والفكرية من “يدافع” عن الوجود الإسلامي في الغرب تجاه التطرف اليميني وسواه، وبدلا من أن تنشط التنظيمات الإسلامية في استضافة هؤلاء والتواصل معهم، كان كثير من ردود الأفعال “يبحث” عما لا “يتطابق” كليّة مع الرؤية الإسلامية الذاتية ليكون مادة مناسبة للاستنكار والتنديد، كما لو أن المطلوب من “المنصفين” من غير المسلمين أن يعتنقوا الإسلام على مقاس رؤية بعضنا.. قبل أن يستحقوا التكريم والتشجيع والتواصل.
المثال الثالث.. هو مسار التعامل مع ترامب وأفاعيله حاليا، إذ نرصد أن “الغالبية العظمى” ممن يتحركون في مواجهته بغض النظر عن تعدادهم وهو كبير، وعن نسبتهم وهي عالية، هم من غير المسلمين، من أجهزة قضائية ومسؤولين سياسيين ومنظمات المجتمع المدني وكثير من وسائل الإعلام، في قلب الولايات الأمريكية، وفي بريطانيا، وفي الاتحاد الأوروبي عموما.. وعند متابعة ردود فعلنا عموما على المشهد، فغالب ما نرصده هو التركيز على انتقاد من لا يتحرك من المسؤولين في الغرب، وكذلك من البلدان العربية والإسلامية، ومن يعتبر نفسه من النخب، من العرب والمسلمين.. فإن لم نجد ما ننتقده فلربما استخدمنا أسلوب “التشكيك” في حقيقة مواقف من يناصرنا”!
آن الأوان أن نمتنع عن المساهمة بأنفسنا في تصعيد مفعول تيارات التطرف ضدنا، وفي تخذيل تيارات المنصفين المدافعين عن قضايانا باعتبارها من القضايا الإنسانية المشتركة.
آن الأوان أن نعيد النظر في أساليب تفكيرنا وردود أفعالنا، وأن نبحث عن الثغرات التي لم نملأها في ساحة المبادرات العملية الإيجابية المتوازنة المستدامة الهادفة، بدلا من تخصيص وقت وجهد للبحث عن السلبي كي نرد للمخطئ “الصاع صاعين”، ونوهم أنفسنا بأننا صنعنا ما علينا.
أو آن الأوان -على الأقل- أن نمنع أنفسنا من توريث ذلك لجيل جديد من المسلمين في الغرب، أقدر منا على التعامل مع الواقع الذي يعيش فيه، فغالبه ممن ولد فيه أو نشأ فيه، وأتقن لغاته، ومنطق الإقناع لدى أهله، وأساليب التأثير الاجتماعي والثقافي والسياسي في أوساطهم، وبدأ يظهر في صفوفه متفوقون في ميادين عديدة، ذات علاقة بصناعة الفكر والرأي، علاوة على الميادين العلمية والتقنية.
استشراف مستقبل أفضل
إن مواجهة تيارات ترامب وأمثاله في الغرب، تتطلب شروطا مبدئية في مقدمتها استيعاب المشهد بكامله، ووضعه في مكانه من المشهد الأوسع لحركة عجلة التاريخ الحضارية، ثم استيعاب أنفسنا، وتحديد هويتنا، بحيث ينعكس فيها أننا جزء من المسلمين لأننا ننتمي إلى الإسلام، وأننا في الوقت نفسه جزء من البشرية من الجنس الإنساني، لأننا ننتمي مع سوانا إلى “آدم”، كما أننا في الوقت نفسه أيضا جزء من مجتمعات غربية نعيش فيها، ويُفترض فينا أن نفهم “سلم الأولويات” لدينا ولدى سوانا، ونحسن التعامل معها، بأن نتعامل مع سوانا في هذه المجتمعات من خلال قضايا مشتركة بين الجميع.. وإن رأى بعضنا أنها تهمّ سوانا أكثر مما تهمّنا، كما نتعامل أيضا مع سوانا في هذه المجتمعات من خلال قضايا تهمّنا أكثر من سوانا.
أما أن نتحرك فقط في نطاق ما يهمّنا.. فلا ينبغي أن نستغرب استمرار تضييع نصرة من يريد أن ينصر قضايانا حيث نقيم وعالميا، وأسوأ من ذلك.. أن نعتبر “الدفاع والنقد والرفض” هو العمل، بديلا عن الكفاءة والمهارة والتخصص والتكامل والتفكير القويم والعطاء الإيجابي الهادف.
مثل هذا التحرك لا يتحقق دون هزّة شاملة في نطاق التنظيمات الإسلامية في الغرب، وانفتاحها، وإحداث تغيير جذري على تكوينها الهيكلي التنظيمي، وعلى أساليب عملها، ودعم المتفوقين في اختصاصاتهم الإنسانية والاجتماعية، والانطلاق من هدف “التخصص والتكامل” إلى التخطيط المنهجي والتطوير المتجدد لمسارات عملنا، مع الانفتاح المتوازن على المجتمعات الغربية، والتعاون المدروس في الميادين المشتركة، واعتبار مبدأ الأخذ والعطاء محورا للعلاقات المتبادلة، وأن يتبدل شعور “الخوف على هويتنا” إلى شعور “الاعتزاز” بأنها صالحة لكل زمان ومكان، لأنها جامعة للعنصر الإنساني مع العقدي، والعنصر الإيجابي مع التميز الثقافي والقيمي.
نبيل شبيب