من أعظم ما تميزت به الثورة الشعبية في سورية، أنها انبثقت بمشاعل مسيراتها السلمية الأولى، من أعمق أعماق وضع „ميؤوس“ منه في نظر كل „عاقل“، أي في نظر كل من يفكر بعقلية نشأت على ما ساد من قبل من تصوّرات للعمل وقواعد للإصلاح والتغيير، و“مناورات“ ديبلوماسية وغير ديبلوماسية في التعامل السياسي داخليا وإقليميا ودوليا.
لهذا كانت الثورة "ثورة" ولم تكن مجرد انتفاضة عابرة، ولا تحركا محدود الأهداف في رداء "أزمة سياسية"، ولم تكن كذلك "عملية انتقامية" تصنع "حربا أهلية".. بل سلك شبابها وفتياتها طريقهم الثوري خارج نطاق كل تنظيم واتجاه وخارج نطاق مختلف تجليات "الأنانية الفردية"، وأبدعوا إبداعا متواصلا متجددا في صناعة الوسائل وصناعة المفاجآت.
هل يمكن التعامل مع مثل هذه الثورة الشعبية بمنطق سياسي تقليدي جامد موروث، نشر لدى الثوار تلقائيا عبارة "ثوار الخنادق وثوار الفنادق" الناطقة بالألم الساخر لا التهكم المرير فحسب؟
هل يمكن التعامل معها بمنطق "ما لنا غيرك يا أمريكا"؟
هل يمكن التعامل معها بمنطق "الشعب السوري ما بيتوحّد"؟
هل يمكن التعامل معها بمنطق "المذلّة.. ولا موت المناصب"؟
القوى الإقليمية والدولية حريصة على "قواعد اللعبة" لإدراكها أن انهيار هذه القواعد يعني انهيار هيمنتها هي على صناعة القرار في مختلف الميادين والأمكنة، ولكن ما مغزى أن يسري ذلك على من يعتبرون أنفسهم "سياسيين سوريين" ثوريين وغير ثوريين، باسم الشعب المبدع عبر تحرك تاريخي تغييري شامل لسورية وما وراءها؟
السؤال المطلوب بالمنظور السياسي أو السياسي الثوري: هل وقع التطور السلبي في مسار الثورة "رغم" وجود حاضنة سياسية قويمة للثورة، أم كان من أسباب وقوعه غياب تلك الحاضنة واقعيا؟
لقد ابتليت الثورة الشعبية في سورية في هذا الأثناء بحلقة شيطانية مفرغة، يتفاقم فيها العقم السياسي عن الإبداع الذي يكسر قضبان التقليد المتوارث، وتتفاقم مخاطر دورات التقدم والتراجع في غياب الرؤية القويمة والقيادة الحكيمة، وهذا ما يسري على "التشكيلات السياسية" و"التشكيلات الميدانية" على السواء.
ربما وجدت بعض المبادرات للإحساس بالخطر في الجديد من الحديث الثوري عن الحاجة إلى رؤية سياسية مستقبلية جامعة، بالمقابل لا نزال نفتقر حتى إلى المبادرات الأولى على المستوى السياسي، مثل إدراك أن الرؤية الجامعة لا يضعها فريق منفردا ولا تنطلق من منطق المحاصصة، بل تأتي بالتوافق بين المنتسبين إلى وطن واحد وشعب واحد وثورة واحدة شرطا للعمل من أجل مستقبل واحد.
لا نزال نعايش أمواجا ترتفع وتنخفض بالتفاؤل الموضوعي في مسار الثورة، ويبقى التفاؤل حتى وإن غابت الأسباب، فغياب الأسباب يعني غياب صانعيها من البشر، ولا ينتهي مسار الثورة بغيابهم، بل يأتي بسواهم، فالتفاؤل من قبل ذلك ومن بعد صادر عن الثقة بالله، وهو الذي جعل من سنن التغيير عند عجز قوم عنه أن يأتي بقوم آخرين، ثم لا يكونوا أمثالهم، فيأخذوا بالأسباب الموضوعية ويصنعوا التغيير الذي فتحت الثورة بابه.. ولن يغلق الباب حتى يتحقق التغيير.
نبيل شبيب