قد توجد مخاوف على موقع زعامة حزبية وسياسية ذاتية، وقد توجد مغريات من نسيج الظروف الآنية في العراق وسورية، من وراء دوافع رئيس إقليم كردستان العراق البرزاني إلى استفتاء على الانفصال عن البلد الأم، متزامن مع استفتاءات أخرى تحت عنوان "مقدمات للفيدرالية" تجري في مناطق تسيطر عليها قوات مدعومة أمريكيا وتقودها زعامات كردية محلية.
وقد جمع رفض ذلك الاستفتاء من لا يجتمعون عادة على موقف واحد في مجلس الأمن في نيويورك، كما جمع ساسة أنقرة وبغداد وطهران وهم من يندر توافقهم على مسائل "إقليمية" دون أن تنطوي على مصلحة كبرى مشتركة يغلبّونها على التناقضات الكبيرة الأخرى.
هذا علاوة على أن الشعوب التي أنهكها وأدماها التحرك المضاد لثورات تحرير الإرادة الشعبية من استبداد محلي وهيمنة دولية، لا يمكن أن تؤيد الآن بالذات خطوة من هذا القبيل، تزيد الحرائق اشتعالا، وتضاعف إفرازات الفوضى المزروعة زرعا في المنطقة، بوصفها "خلاقة" لفرض مرحلة هيمنة أمريكية تالية، وإن كانت "هدّامة" بمعايير المصالح العليا للشعوب وحتى للأنظمة الإقليمية نفسها.
إما أن البرزاني وملئه لا يملكون القدرة على تفكير سياسي منطقي حتى وهم يعملون لتحقيق مصالح ذاتية، سواء اعتبرناها شخصية أو حزبية أو حتى قومية، أو أن القوى التي تحتضنهم وتشجعهم قد استدرجتهم إلى خطوة تخدمها وتخدم سياسة الفوضى الهدّامة في مخططاتها ولا تخدمهم.
الخاسر الأكبر سياسيا هو الطرف الذي اتخذ القرار، ولئن سبّب ضررا لقضية الأكراد أيضا، فهي قضية ستبقى من بعده أيضا، وستجد في مستقبلها حلا في نطاق ما يحقق لشعوب المنطقة تحرير إرادتها السياسية من الاستبداد والهيمنة في آن واحد.
وكانت المرحلة الحالية من التطورات الجارية في المنطقة قد أعطت زعماء أكراد إقليم كردستان العراق فرصة ثمينة لتمتين علاقات إيجابية حيوية وبالغة الأهمية تربطهم مصلحيا مع تركيا تحديدا، وبدلا من الاستفادة منها في لحظة حاجة الطرفين إليها، ظهر مشروع استفتاء غير ملزم مهما كانت نتائجه، وهم يعلمون أنه يثير في تركيا ما أثاره بالفعل من التهديد بردود فعل وإجراءات مضادة، علاوة على أنه -بغض النظر عن حقيقة المواقف الغربية والروسية- أتى في لحظة تتناقض مع التصورات المرتبطة بتلك المواقف في اللحظة الراهنة على الأقل، فكانت جميع الدلائل تؤكد أن ذلك المشروع سيسبب ما يتراوح بين الحرج والعداء لدى أطراف ذات علاقات جيدة مع الإقليم وزعامته، دون تحقيق أية مكاسب منظورة على أرض الواقع.
وعلى المستوى الشعبي.. ورغم واقع القهر الاستبدادي والدولي لإرادة الشعوب، كان هذا الواقع بالذات بعد آمال عريضة مشروعة أطلقتها الثورات الشعبية، فتوافرت أمام زعماء أكراد إقليم كردستان العراق فرصة ثمينة لنشر التعاطف الشعبي مع قضية الأكراد العادلة في الأصل، باعتبارهم من شعوب المنطقة، يضيرهم ما يضيرها، ويحق لهم تحرير إرادتهم مثلها، إنما لا يصنع هذا التعاطفَ استفتاءٌ على الانفصال عنها وهو الأهم من الانفصال الجغرافي عن نظام حكم لا أحد يجهل مدى استبداده وانحرافه كأنظمة أخرى في المنطقة، إنما يمكن أن تصنع التعاطف مواقف سياسية أخرى، تؤكد الالتحام بين الشعوب، ومشاطرتها آمالها وآلامها.
لهذا التأكيد مرة أخرى أن قرار الاستفتاء في هذا الموعد بالذات وفي الظروف الحالية تحديدا، كان أسوأ قرار سياسي يسبب الضرر الأكبر للطرف الذي اتخذه، ويسيء إلى قضية الأكراد العادلة عموما، أكثر من سواها، ويزيده ضررا وسوءا أن يكون التأييد الوحيد له صادرا عن أصحاب المشروع الصهيوني فكأنهم يريدون بهذا الموقف العلني الاستعراضي مزيدا من الإضرار بالأكراد وقضيتهم، لا سيما وأنّهم يقدّرون على الأرجح أن الإخفاق هو المرجح سياسيا وإقليميا سواء تم إجراء الاستفتاء أو إلغاؤه، وهذا ما يشمل تسجيل خسارة سياسية كبرى في سجل البرزاني وملئه، بميزان مصلحة الأكراد وقضيتهم قبل سواهم.
نبيل شبيب