قبل الثورة الشعبية بثلاث سنوات، أعلن عام ٢٠٠٨م عام "دمشق.. عاصمة الثقافة العربية" وفي أواخر ذلك العام انتشرت في الشبكة العنكبوتية رسالة ختمت بما يلي:
(المرسل: بلدك – دمشق / الزمان: البارحة.. اليوم.. غداً وكل يوم
ملاحظة: أرسل لك بينما تقرأ هذه الرسالة المزيد والمزيد من إخوتك وأخواتك المتجمهرين على أبواب السفارات فانتظرهم على أبواب المطارات، المعابر والحدود ولا تنس أن تعطيهم نسخة من رسالتي هذه..)
وانساب القلم فنشر في مداد القلم جوابا عبر الشبكة العنكبوتية برسالة يجدها من يحب عقب نص الرسالة المشار إليها.
. . .
(شو بحبك يا شام).. رسالة.. من دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008
مساء الخير أو صباح الخير.. أو ربما من الأفضل أن أقول أسعد الله أوقاتك فأنا لا أعرف متى ستصلك رسالتي ولا متى ستقرأها بل حتى لا أعرف إن كنت ستقرأها أصلاً ولا أعرف لماذا قررت أن أكتب لك اليوم بعد كل هذه القطيعة التي كانت بيننا..
ربما أخطأت بحقك وربما أنت من أخطأ ولكني أعرف تماماً أننا لم نتحدث منذ وقت طويل وأنك ربما تستغرب رسالتي هذه التي ستعتقد أنها مجرد Junk Mail أو Spam إلا أنها ليست كذلك بل هي رسالة موجهة لك أنت.. صحيح أني لا أعرف اسمك أو ربما أخلطه مع عشرات الأسماء الأخرى إلا أني أعرف عنك الكثير من الأمور التي ستستغرب ورودها في رسالة قذفتها الأمواج الألكترونية إلى شاطئ حاسبك..
لست هنا لأعاتبك أو ألومك فما حصل قد حصل.. صدقني لا فائدة من العتاب الآن فالحياة قصيرة ولا شيء فيها يستحق أن نحزن لأجله..
كيف حالك هذه الأيام؟؟ أتراك لا زلت تذكرني؟؟
أتريد أن تسأل عن أخباري؟؟ أحقاً تريد أن تعرفها؟؟
صدقني لا أعرف من أين أبدأ..
لا أعرف من الذي تغير أنت أم أنا أم كلانا معاً.. لكن بالتأكيد هناك الكثير من الأمور التي تغيرت..
أظن أنك سمعت عن غلاء الأسعار وكم باتت الحياة مكلفة ومرهقة أليس كذلك؟؟ نعم أنت محق.. كل شيء أصبح غالياً.. أتريد حقاً أن نتحدث عن الغلاء الذي سمع به الجميع؟؟ صدقني لقد صرخنا كثيراً كما صرخت أنت من قبل ولكن كالعادة لم يسمعنا أحد.. أتريد أن تصرخ معنا في المرة المقبلة؟؟ معك حق ما الفائدة؟؟
منذ فترة وصلت مجموعة من الباصات الجديدة.. أسمعت بها؟؟
نعم.. باصات خضراء صينية جديدة بمقاعد صفراء لا زالت حتى اليوم خالية من الخربشات وذكريات الركاب..
أتذكر باصات النقل الداخلي القديمة التي كنت تركبها؟؟ أتذكر لونها الأخضر الداكن؟؟ أتذكر رائحة مقاعدها وكيف قام البعض بتمزيقها لا لشيء إلا حباً للأذية تطبيقاً للمثل القائل: (سألوا القاق ليش بتسرق الصابون؟؟ جاوبهم: الأذى طبع)..
أتذكر كيف كنت تنحشر في السرفيس مع عشرات البشر الآخرين وكيف كان ينطلق السائق برعونة فتشعر بنفسك وكأنك كوكتيل فواكه في خلاط مولينكس؟؟ أتذكر سائق التاكسي الذي تشاجرت معه لأنه رفض أن يشغل العداد؟؟ لا بد أنك تضحك على نفسك حين تذكر تلك الأيام..
الشوارع لم تتغير كثيراً فمرآب ساحة المواصلات لم ينتهِ بعد وساحة العباسيين لم تنتهِ بعد أما ساحة الأمويين فبين الحين والآخر يقومون بحفرها أو حفر ما حولها لتذكيرك أن دوام الحال من المحال فها هم اليوم يحفرون نفقاً جديداً ما بين منطقة كيوان وحديقة تشرين والله وحده يعلم متى سينتهي..
حارات الشام القديمة لم تتغير كثيراً.. لا زالت البيوت موجودة وأبوابها مفتوحة إلا أنها أصبحت أكثر فخامة وأناقة حيث أنها باتت مطاعمَ اليوم وبتّ تجد بين المطعم والمطعم مطعماً آخر.. قهوة النوفرة لا زالت على حالها وكرسي الحكواتي لا زال موجوداً ورائحة المعسل والتنباك لا تزال تعبق في المكان وكاسة الشاي الخمير لا زالت هي ذاتها إلا أني لم أعد أذكر كم كان سعرها يوم التقينا هناك آخر مرة.. أتراك تذكر؟؟ أتذكر وجه النادل؟؟ أم أنه ككل الوجوه الأخرى التي مسحتها الأيام من ذاكرتك؟؟
أتذكر سوق الحميدية كم كان يبدو طويلاً طويلاً وكم كان مزدحماً؟؟ أتذكر الأصوات التي كانت تصدر من محل بكداش حين يضرب العامل البوظة بالقشطة والفستق باستعمال الذراع الخشبية الكبيرة؟؟ أتذكر الأذان الصادر عن مآذن الأموي ومئات الحمائم تحوم حوله وتلعب في باحته بحرية؟؟ أتذكر زينة الميلاد ورأس السنة في باب توما والقصاع والتي كانت تبهرك بجمالها؟؟ أتذكر بوز الجدي في سوق الشيخ محي الدين وطعم الفول والفتة بسمنة؟؟ أتراك تذكر الشاورما في الميدان وكيف تناولت القشة ذات يوم في أحد المحلات هناك مع أصدقائك ثم أكلت كنافة نابلسية رغم أن الساعة كانت تشير إلى الثانية فجراً؟؟ ألا زلت تحب (القباقيب على سكر) التي كانت تشتريها والدتك من البزورية؟؟ ألا زلت تذكر (البراغي) و(السوس) ورائحة الملبس يخرج ساخناً من محل السيوفي ووالدتك تبحث عن الملبسة ذات اللوزة الكبيرة والقشرة الرقيقة وأنت تغمض عينيك وتشم رائحة التوابل والسكاكر والشموع وعشرات الزيوت؟؟ أتذكر حين ذهبت إلى حمام السوق مع أصدقائك ظهراً ولم تخرج منه إلا بعد منتصف الليل لتجد سوق البزورية ومدحت باشا خالياً لا تسمع فيه سوى وقع أقدامكم وكيف اتجهتم بعدها لتناول ‘الدوندرما’ في المناخلية قبل أن تكتشفوا أن لا شيء يشبه سندويشات السجق والبصطرما التي ذهبتم لتناولها عند سيروب في الصالحية مع كاسة لبن عيران؟؟
ألا زلت تذكر طعم الفول صباح يوم الجمعة والمعروك والناعم في رمضان ومعمول العيد؟؟
هذا المساء كانت المهاجرين مزدحمة كعادتها وبائع الفلافل لا يزال على حاله وعشرات الناس على جانبي الطريق وبائع الذرة في ساحة الجسر الأبيض وكشك المجلات ونزلة الطلياني وصولاً إلى ساحة عرنوس، شارع الحمراء وطريق الصالحية.. كل شيء على حاله، وحدها أسماء المحلات التجارية تغيرت أما عربات الفول والذرة ودراجة بائع التمرية فلا زالت على حالها.. حتى بائع العوامة في مصلبة الشعلان لا زال على حاله يلقي بقطع العجين في قدر الزيت لتخرج كرات من ذهب..
قاسيون ذلك العاشق الدمشقي لا يزال في مكانه شامخاً يتأمل دمشق طوال الوقت ويهديها آلاف قصائد الغزل كل ليلة بالرغم من كل الطفيليات التي نمت على ظهره من استغلاليين رأسمالهم طاولة وكرسي من البلاستيك وعلبة محارم..
أذكر أنه كان يوجد هناك صورة لك وأنت في بلودان أيام الثلج.. كنت تبدو في الصورة وأنت تحمل كرة ثلج تهم برميها على أحد أولاد خالتك.. وربما كان هناك صورة أخرى لك في بلودان أيضاً ولكن أيام الصيف وأنت تتناول طعامك في مورا.. لست متأكدة.. ولكني متأكدة من أنك كنت تحب سهل الزبداني وأنك في يوم ما اشتريت بنطلون جينز تهريب من أحد المحلات في مضايا وأذكر أنك ذات يوم شربت من نبعة الماء في بقين وأن الماء يومها كان بارداً ومنعشاً وأنك تمنيت لو أنك تظل تغب وتغب من ماء النبعة إلى الأبد.
أتسألني عن الغوطة وبردى؟؟ الغوطة امتلأت بالمطاعم والمقاهي بدءاً من تلك الشعبية وانتهاءً بمطاعم الخمس نجوم ومع هذا فلا زالت تحمل في ذاكرتها عبق "السيارين" أيام الربيع ورائحة زهر المشمش والكرز.. لا زالت تحمل في ذاكرتها كما تحمل أنت في ذاكرتك صورة والدك جالساً على الأرض يلعب الطاولة مع عمك ووالدتك تحضر السلطة بينما تقطع عمتك البطاطا لتعد البطاطا المقلية في حين تصر جدتك على أن تستلم مهمة شك اللحمة على الأسياخ لتباشر بشيها بمساعدة زوجة عمك وابن عمك الأكبر في حين يجلس جدك على الكرسي يدخن النرجيلة ويتأملك وأنت تلعب مع إخوتك وأولاد عمك وعمتك..
بردى؟؟ أعرفه.. وأعرف كيف كنت تصر على نزع حذائك والخوض في مياهه الباردة وأعرف كم مرة أنبتك والدتك لأنك أضعت حذاءك الذي جرفه النهر وأعرف كم كانت تصبح البطيخة باردة ولذيذة حين كان يضعها والدك في النهر.. نعم أذكر كل هذا كما تذكره أنت ولكن ما لا تعرفه هو أن بردى لم يعد نهراً.. بل هو اليوم مجرد صورة في ذاكرتك وذاكرتي..
منذ بضعة أشهر صدرت نتائج الثانوية العامة ومن ثم تلتها نتائج المفاضلة واليوم فتحت الجامعات أبوابها..
أتذكر يوم حصلت على نتيجة الثانوية العامة؟؟ أتذكر كم كنت متوتراً يوم صدور النتائج وكم طرت فرحاً بنجاحك؟؟ أتذكر كم رن الهاتف في ذلك اليوم وكيف وزعت والدتك شراب التوت الشامي وكيف دمعت عينا والدك بعد أن صدرت المفاضلة وانتسبت إلى الجامعة؟؟ أتذكر ماذا كانت هديتك في ذلك اليوم؟؟ أم أنك تخلط بينها وبين هدية تخرجك؟؟
كم مرت الأيام بسرعة.. أيام الجامعة مرت كلمح البصر.. حالها كحال أيام الثانوية..
أتذكر كم مرة تسلقت سور المدرسة؟؟ أتذكر أستاذ الرياضيات وكيف كان أحد أصدقائك في الصف يجيد تقليده؟؟ أتذكر الصوبيا التي لم تكن تشم رائحة المازوت طوال الشتاء وكيف كنتم تنحشرون في غرفة صف ضيقة وكيف كنت تتشارك سندويشاتك مع زميلك في المقعد؟؟ أتذكر كم كان طعم كاسة الشاي لذيذاً حين كنت تشربها خلسة مع زميلك بينما يكون الأستاذ مشغولاً بالكتابة على السبورة؟؟ ألا زلت تذكر زميلك في المقعد؟؟ ألا زلت تراه؟؟ أسمعت شيئاً جديداً عنه؟؟
تمثال عدنان المالكي لا يزال يتوسط ساحة المالكي وتمثال يوسف العظمة لا يزال يتوسط ساحة المحافظة ولا زالت السيارات تدور حولهم كما تدور كل قصصنا حول البطولة والأبطال والرموز.. ألا زلت تذكر هذه القصص أم أنك نسيتها؟؟ ألا زالت تعني لك شيئاً؟؟ أم أنها ككل الأشياء التي ما عادت تهمك؟؟
حبيبتك ما هي أخبارها؟؟ متى كانت آخر مرة كتبت لها؟؟ مضى وقت طويل على آخر مرة حدثتني عنها.. أتزوجتما أم أن الأيام قد فرقتكم عن بعضكم كما في كل قصص الحب؟؟ وإن لم تكن قد تزوجتها هي فمن تزوجت؟؟ هل أحببت بعدها من جديد أم أنك تزوجت فقط؟؟ أيعقل أنك لا زلت عازباً؟؟ أحياناً أفكر أنك لم تتزوج فقط وإنما رزقت بأولاد أيضاً.. ترى ما هي أسماؤهم؟؟ ما هي أعمارهم وكيف هي ملامحهم وهل أخبرتهم عني؟؟ أم أنك لم تجد الوقت لذلك بعد؟؟ وإن كنت قد أخبرتهم عني فماذا قلت لهم؟؟
أتعلم لا زلت أذكر وداعنا في ذلك اليوم.. أذكر كيف أنك كنت تريد أن تبتعد عني بسرعة كي لا تغير رأيك وأنك كنت طوال الوقت تفكر بعيوبي الكثيرة وكل الصدمات التي سببتها لك وأنك كنت تتهرب من النظر نحوي كما كنت تتهرب من النظر في عيني والدتك.. والدتك التي لا زالت كل يوم تصلي لأجلك وتدعو الله كي يكون معك.. والدتك التي تنتظر اتصالاتك بفارغ الصبر.. والدتك التي لا زالت تحتفظ بكل صورك وتتذكر صوت بكائك وضحكتك ونبرة صوتك حين كنت طفلاً..
لازالت رائحة طبخها تملأ المطبخ وضحكتها حين تضحك تملأ البيت وطعم قهوتها كصوت فيروز كنور الشمس كصوت العصافير كأي طقس من طقوس الصباح وكأن للصباح طقوسا لا تكتمل إلا بقهوتها.. لا زالت قوية بالرغم من الديسك.. لا زالت عنيدة رغم أنها كبرت في السن ولكن مع هذا صدقني لاتزال غصتها بسبب سفرك عالقة في حلقها حتى اليوم..
والدك..
أراه وهو يدعو لك كلما داعب مسبحته بأصابعه.. لازال مهووساً بنشرات الأخبار، لا زال يحب لعب الطاولة، لا زال يرتدي قبعة من الجوخ في الشتاء، وقبعة قطنية بيضاء أيام الجمعة حين يذهب إلى الجامع، لا زال يشتري الجرائد كل صباح و(يتناقر) مع والدتك طوال اليوم ويخاف على أغراضه القديمة إلا أنه بدأ ينسى قليلاً وأصبح يكرر ذات القصة مرات ومرات دون أن ينتبه، لا يزال يذكر القصص التي كان يحكيها لك حين كنت طفلاً ومنذ بضعة أيام كان يحكي ذات القصة لابن شقيقتك.. هو سعيد بكونه قد بات جداً ولكنه يفتقدك بكثرة..
أتعلم.. في ذلك اليوم بعد أن أوصلك إلى المطار وبعد أن دس في جيبك الألف دولار التي حتى اليوم لا تعلم من أين استدانها وبعد أن أخبرك أنك صرت رجلاً وطلب منك أن ترفع رأسه ورأس البلد وبعد أن تمت كل مراسم الوداع جلس في مقعد السيارة وبقي صامتاً طوال طريق العودة وما إن وصل إلى البيت حتى احتجز نفسه في غرفته وراح يبكي كالأطفال.. وحدي أنا رأيته ورأيت دموعه.. وحدي أنا سمعته يدعو لك بالتوفيق ووحدي أنا كنت أعلم كم كان قلبه يتمزق على غيابك مهما كان يتظاهر بالتماسك والقوة ويطلب من والدتك بحزم وشدة أن تتوقف عن البكاء.. وحدي أنا كنت أعلم أن التهاب حنجرته لم يكن بسبب فيروس ما وإنما من كثرة ما جاهد نفسه ليحبس دموعه..
لازلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله..
أذكر حقائبك التي حملت فيها أغراضك وأحلامك والكثير من ذكرياتك.. أذكر ملابسك التي تفوح منها رائحة الصابون ورائحة بيتكم.. أذكر كم كانت ملابسك مرتبة ومكوية وكيف كوتها شقيقتك في الليلة التي سبقت سفرك وهي بالكاد تراها من كثرة الدموع التي تجمعت في عينيها..
أذكر كم كنت مستعجلاً لتنهي مراسم الوداع وكم كنت مستعجلاً لتختم جواز سفرك وتنهي كل الإجراءات وكيف أطلقت شتيمة حين رأيت موظف المطار يقبض رشوة وكيف اتجهت إلى مدخل الطائرة بسرعة وأنت تتمتم أنك (خلصت من هالقرف) ثم جلست على مقعدك وربطت حزام الأمان وسمعت صوت المضيفة يعلن موعد إقلاع الطائرة وكيف أنك كنت حتى تلك اللحظة مصراً على أن تتجاهلني وكيف أن الطائرة أقلعت دون أن تنظر نحوي، دون أن تلوح لي ودون أن تقول لي كلمة وداع واحدة ولكني أيضاً رأيتك كيف التفت نحوي قبل أن أختفي تماماً من أمام عينيك وتفصل بيننا السحب وآلاف الكيلومترات وأذكر أني يومها لمحت دموعك وسمعت صوتك وأنت تخبرني أنك تحبني..
نعم.. يومها سمعتك ورأيتك واليوم أكتب لك لأخبرك أنني أنا أيضاً أحبك ولأقول لك أني ربما ظلمتك، وربما قسوت عليك وربما لم أكن كما كنت تتوقع وربما لم أقدم لك ما كنت تريد وربما لم أحقق لك ما حققه لك غيري وربما لم تجد عندي ما وجدته في غيري إلا أنني في نفس الوقت أعرف كم أحببتني وكم كان صعباً عليك فراقي وأعرف أنك بالرغم من كل ما تقوله لا زلت تحبني وأنك كلما تنبهت إلى أنك لا زلت تحبني تتفاجأ من نفسك وتحاول من جديد أن تتجاهلني وتجد عشرات المبررات لتقنع نفسك أن هجري كان أفضل ما قمت به في حياتك..
اليوم أكتب لك لأنهي هذه القطيعة ولأضع حداً لجدار الصمت الذي بيننا.. أكتب لك لا لأطلب منك العودة ولا لأطلب منك صفحة جديدة ولا لأعاتبك وألومك على مقاطعتك لي طوال تلك السنوات وإنما لأقول لك سامحني إن أنا أخطأت بحقك وحين تذكرني اذكرني بكل خير..
المرسل: بلدك – دمشق
الزمان: البارحة.. اليوم.. غداً وكل يوم
. . .
جواب رسالة (شو بحبك يا شام): من ابنك المحب
المرسل: بلدك – دمشق
الزمان: البارحة.. اليوم.. غداً وكل يوم
بهذه الكلمات كان توقيعك أيتها الحبيبة على رسالتك إليّ وكثير من أمثالي بعنوان "شو بحبك يا شام"..
وابنك البار.. البارحة.. واليوم.. وغدا.. وكل يوم.. وعدك بجواب.. فإليك هذا الجواب.. فهل تقرأينه بنبضات القلب كما قرأت رسالتك؟
تتساءلين: (لا أعرف إن كنت ستقرؤها أصلاً)..
سامحك الله، وهل صدرت عنك كلمة أو همسة أو نبضة أو لفتة أو آهة دون أن أقرأها وأعيد قراءتها وأنام وأقوم عليها، منذ أربعين سنة وزيادة مضت على فراقك.. وما زلت أفعل، ولو امتد بي العمر أربعين عاما أخرى؟
تقولين: (لا أعرف لماذا قررت أن أكتب لك اليوم بعد كل هذه القطيعة التي كانت بيننا)..
وهل كانت قطيعة؟ أقول عن نفسي أيتها الحبيبة إنّني لا أملك أصلا أن أقاطع دماً يسري في شراييني ليل نهار على ذكرك، وعبيرا أستنشقه في رئتي من نسيمك، ونورا يضيء في عيني من إشراقة شمسك ومحيّا قمرك، وأريجا يفوح حولي حيثما تحركت من عطر زهرك في صباحك ومسائك.. أأقاطع روحي بين جنبيّ أيتها الحبيبة؟
كلا.. لم "أستغرب رسالتك" بل أستغرب لو لم تصلني رسالتك.. ولا أعتب عليك أنك "لا تعرفين اسمي" وأعتب إن كنت تحسبين أن اسمك غاب عن شفتي أو قلبي يوما من الأيام.. على امتداد السنين الطوال.. الطوال.
صحيح أنه (لا فائدة من العتاب الآن فالحياة قصيرة ولا شيء فيها يستحق أن نحزن لأجله..) إنما الحياة القصيرة تطاولت لحظاتها دهورا تحت أثقال البعد والهجر، وتركت على تجعيدة الجفون أخاديدها، وعلى الصدغين آثارا من بياض العينين حزنا وكمدا، وعلى اليدين رعشة من ذكرى تعود في كل لحظة بلحن جديد.. وعادت إليّ برسالتك هذه معزوفة من الألحان والأحزان والأشجان..
أخبارك كلها.. كلها.. أتابعها بكل وجداني وفكري، وقلبي وقلمي، فكل ما تحدثينني عنه قطعة من كياني، عن "غلاء أسعار لا ينفع معها صراخ" و"باصات جديدة وقديمة"، و"السرفيس.. وساحات العباسيين والأمويين وأخواتها وحديقة تشرين.. والحارات الضيقة في الشام القديمة وما انتشر فيها من مطاعم.. وسوق الحميدية وكل الأسواق.. والأطعمة الشعبية.. والحلويات.."
ولعلك تذكرين ما أذكر من عبث ذلك الطفل الصغير ما بين شارع الروضة ومدرسة "عمر بن عبد العزيز" في الجسر الأبيض.. ومن خطوات ذلك الفتى الناشئ تحت أشجار حديقة السبكي وعلى ضفاف بحيرتها الصغيرة.. ومن فخر تلميذ ثانوية "جول جمال" وهو يلقي كلمة "عيد الأم" في باحتها.. أو يوم اصطناعه الجدّ على وجهه الغض وهو يلقي خطبة الجمعة الأولى في حياته في مسجد "أبو النور".. ولما يبلغ سبعة عشر عاما من عمره..
ولعلك تذكرين ما أذكر عندما كنت أقطع بين منتصف الليل والفجر المسافة الطويلة ما بين بيت عمتي في المهاجرين وبيتنا في "حي الأكراد" وكان هذا اسمه الشعبي عندنا وإن أبدلوه باسم "حي ابن العميد".. هناك في المهاجرين كان بيت عمتي، ومع ابنتها كنت أعدّ لامتحانات الشهادة الثانوية.. وقبل عام واحد وصلني نبأ وفاتها في أحضانك أيتها الحبيبة.. ولم أملك سوى دمعة الذكرى عن بعد وعبرة الأسى ألا أستطيع مواساة عمتي وقد أثقلت ظهرها الأعوام..
وهناك في حي ابن العميد كانت مدرسة ابن العميد التي حصلت فيها على شهادة الثانوية.. قبل أن أفارقك أيتها الحبيبة.. وأحمل في فرقتك ما يزيد ثقله على ثقل قاسيون الشامخ عبر تاريخه الطويل، يحكي من الحكايات ما كانت تعرفه ذرات التراب على وجهه، ذرة ذرة، قبل أن تغطيه المساكن، حارة فوق حارة.
بلودان.. تذكرينها لي فأذكر أيام "شهر العسل فيها".. والزبداني.. تذكرينها فأذكر كيف كانت فسحة عائلتنا فيها وفي مضايا وبقين.. كالأعياد، تزغرد فيها طفولتنا مع أطيارها، وتتسابق أقدامنا مع مياهها، وتغازل أزاهير الربيع فيها أبصارنا.. وهناك عند نبع بردى كان "معسكر الفتوة" مع الأصحاب من مدرستنا، وتحت أشجار الغوطة وعلى أغصانها كانت تتراقص فرحتنا.. وذكريات بردى لم تبرح مكانها في العينين فتأبى رؤيته إلا بمائه الصافي في الربوة والهامة.. قبل أن يتفرع بين أحياء الشام فيرسم على وجهها أجمل صورة بمداد فروعه السبعة..
وفي كل حي من أحياء الشام عبق ذكرى مع صديق من أصدقاء الطفولة، وقريب من أقرباء العائلة.. واعذريني.. فلم أعرف مصير كثير منهم.. ولا أسماء كثير منهم.. وكم أصبح لهم من أبناء وبنات.. وأحفاد وحفيدات.. لقد طال البعد كثيرا.. طال البعد كثيرا أيتها الحبيبة.. فلا تسألي، لم أنس وجها من الوجوه، ولا شجرة من الأشجار، واثّاقلت الأعوام في الذاكرة عن حفظ بعض الأسماء.. أو ربما كانت الذاكرة تدفعهم دفعا عنها، خشية عليّ أن أفجع بخبر عن أحدهم، أن فلانا الذي أحببت لم يعد من الأحياء على تراب الشام.. ولولا أن حبيبتي التي تسألين عنها أيتها الحبيبة هي رفيقة غربتي.. مع أولاد وأحفاد.. من مواليد الغربة بعيدا عنك.. لما بقي في غربتي ما يسليني عنك بعض السلوى.
وليتك لم تذكّريني بما تذكّريني في رسالتك وأنت تكتبين عن..:
(عيني والدتك.. والدتك التي لا زالت كل يوم تصلي لأجلك وتدعو الله كي يكون معك.. والدتك التي تنتظر اتصالاتك بفارغ الصبر.. والدتك التي لا زالت تحتفظ بكل صورك وتتذكر صوت بكائك وضحكتك ونبرة صوتك حين كنت طفلاً.. لا زالت رائحة طبخها تملأ المطبخ وضحكتها حين تضحك تملأ البيت وطعم قهوتها كصوت فيروز كنور الشمس كصوت العصافير كأي طقس من طقوس الصباح وكأن للصباح طقوساً لا تكتمل إلا بقهوتها.. لا زالت قوية بالرغم من الديسك.. لا زالت عنيدة رغم أنها كبرت في السن ولكن مع هذا صدقني لا تزال غصتها بسبب سفرك عالقة في حلقها حتى اليوم..)
لا أدري متى كتبت هذه الكلمات أيتها الحبيبة.. ولكن والدتي لم تعد تنتظرني..
والدتي.. جفت حرقة الدموع في عينيها..
والدتي.. غابت نبضات قلبها..
والدتي.. فارقت الروح ففارقتني الروح بعيدا عنها، حملوها على الأكتاف ولم أحملها، أودعوها مثواها الأخير ولم أودعها، وكانت أمانة لديك.. فأصبحت هناك، في مقبرة الدحداح، أكاد أسمع شكواها من حرمانها وحرماني، وغربتها في أرضها وغربتي..
والدتي لحقت بوالدي الذي تتحدثين عنه أيضا وكأنه من الأحياء.. وتقولين:
(في ذلك اليوم بعد أن أوصلك إلى المطار وبعد أن دسّ في جيبك الألف دولار التي حتى اليوم لا تعلم من أين استدانها وبعد أن أخبرك أنك صرت رجلاً وطلب منك أن ترفع رأسه ورأس البلد وبعد أن تمت كل مراسم الوداع جلس في مقعد السيارة وبقي صامتاً طوال طريق العودة وما إن وصل إلى البيت حتى احتجز نفسه في غرفته وراح يبكي كالأطفال.. وحدي أنا رأيته ورأيت دموعه.. وحدي أنا سمعته يدعو لك بالتوفيق ووحدي أنا كنت أعلم كم كان قلبه يتمزق على غيابك مهما كان يتظاهر بالتماسك والقوة ويطلب من والدتك بحزم وشدة أن تتوقف عن البكاء..)
أخطأت.. أخطأت أيتها الحبيبة.. فجميع ذلك في قلبي المكسور مسطور محفور..
في القلب منذ واحد وأربعين عاما.. منذ وفاته بعد سفري بثلاثة أعوام..
ولو رأيتني في ذلك اليوم.. أو رأيتني الآن في هذا اليوم.. لأدركت أن كل دمعة من دموعه كانت تجري من عيني، وكل آهة من آهاته كانت في نبضة قلبي، ولئن لم تري عينيه على فراش الموت فقد رأيتهما من وراء الآفاق، ولئن لم تشعري بحسرته قبل أن يطويه ثراك فما زالت حسرته عندي في أعمق الأعماق..
وقد أعذرك أيتها الحبيبية أن تغيب وفاة أبي ووفاة أمي عنك.. فكما تقولين لست وحدي من غادرك مع الدموع، وبقيت له الدموع من دونك، تقولين:
(أرسل لك بينما تقرأ هذه الرسالة المزيد والمزيد من إخوتك وأخواتك المتجمهرين على أبواب السفارات فانتظرهم على أبواب المطارات، المعابر والحدود ولا تنس أن تعطيهم نسخة من رسالتي هذه)
وأقول لك.. قد سبقهم كثيرون.. ولا حاجة أن أعطي أحدا منهم رسالة، وأن أذكره بك، فلقد عرفت عبر أكثر من أربعين عاما ألوفا مؤلفة من أبنائك وبناتك، وما عرفت منهم إلا المحبة العابقة بالإخلاص والصدق، والحزن المعجون بالفراق والشوق..
يا شام يا حبيبة أهلك في الديار والغربة، حتى متى تتشوقين ويشق عليك اللقاء أكثر مما شق عليهم الفراق؟
حتى متى تسمعين النداء.. بعد النداء.. ويغيب النداء ولا تغيبين عن أعين المنادين؟
يا شام يا حبيبة أهلك في الديار والغربة، افتحي ذراعيك لتضمّي من لا يزال يضمّ جناحيك في جوانحه، ويمسح دمعتك تحت أجفانه، إن نام فأنت في شذى أحلامه تغفين، أو صحا فأنت في مقلتيه تشرقين، إن تكلم فذكرك الندى على لسانه، أو سكت فالشوق ينطق بأحزانه.. متسائلا: متى اللقاء؟
يا شام يا حبيبة أهلك في الديار والغربة، ونبض أبنائك وبناتك في كل أرض، وأمل محبيك تحت كل سماء..
اهدمي يا شام أسوارا أحاطت بك يُطرق قاسيون منها خجلا وألما..
وارفعي يا شام حجبا جفت من ثقلها دموع بردى حزنا وشجنا..
ومزقي يا شام أوهاما حالت بين قلبك النابض بأهلك وقلوب نابضة بك وبأحلامك حبا وأملا..
هؤلاء الذين تتحدثين عنهم لهم في أحيائك أفئدة تنبض بالحياة، وفي آفاق صبحك ومسائك أعين كحمرة الشفق من حرقة الأشواق، وفي كل ذكرى من ذكرياتك معهم تنهيدة تتساءل: متى اللقاء؟
يا شام يا حبيبة الأهل في الديار وفي الغربة، إلى هؤلاء تكتبين مثل ما تكتبين لي وتقولين:
(اليوم أكتب لك لأخبرك أنني أنا أيضاً أحبك ولأقول لك أني ربما ظلمتك، وربما قسوت عليك وربما لم أكن كما كنت تتوقع وربما لم أقدم لك ما كنت تريد وربما لم أحقق لك ما حققه لك غيري وربما لم تجد عندي ما وجدته في غيري إلا أنني في نفس الوقت أعرف كم أحببتني وكم كان صعباً عليك فراقي)..
وما المحبة بيننا في حاجة إلى دليل وجواز سفر أيتها الحبيبة.. ولا تقرّب المسافات كلمة تطلبين بل يقرّبها حضن المحبة يوم يتسع لإباءٍ نشأ أبناؤك وبناتك عليه في أحضانك.. وشربوه من تاريخ الحضارة بين يديك وفي كنفك، شربوه مع نسيم العزة في هام قاسيون فارتفعت هاماتهم ولم تطأطئ يوما لظلم من غريب أو قريب..
أبناؤك.. وبناتك يا شام.. هجرهم دفءُ أحضانك.. من قبل غربتهم.. وفي غربتهم..
كلا أيتها الحبيبة.. ما تألمت يوما من ظلم منك، قدر ما تألمت من ظلم أصابك، ولا شكوت من قسوة صدرت عنك، بل من قسوة طالت عليك، وما طلبت لنفسي ولا توقعت شيئا ولم أجده منك، إنما طلبت لك الكثير، وتوقعت لك الكثير، وعشت أحلم وأحلم ثم أحلم من أجلك بالكثير.. فاعذريني أيتها الحبيبة، أن طلبي كان عظيما جليلا ولم يتحقق، وأن توقعاتي كانت كبيرة فغلبت أيامَ غربتي جميعا، وأن أحلامي كانت أبعد بكثير مما استطعت أن أصنع لك.. فاعذري قصوري وتقصيري.. وأعدك أن أبقى ما حييت، أطلب لك فوق ما أطلب لنفسي، وأتوقع من أجلك أضعاف ما أتوقع من بقية أيام حياتي، وأعدك.. أن أبقى ما حييت.. أعمل لتتحقق أحلامي.. فأراك كما كنت في قمة التاريخ شعلة من نور، وفي جبين الدهر وساما من فخر، وفي قلوب أبنائك وبناتك في أصقاع الأرض لحنا لا ينقطع من الحنين.. بعد الحنين.. بعد الحنين.. حتى يلقوك.. وحتى ألقاك.. أو ألقى ترابك.. هناك.. بجوار أبي وأمي.
المرسل: ابن دمشق
الزمان: أيام قبل الرحيل الأخير
نبيل شبيب