ــــــــــ
أمسكت بالقلم أكثر من مرة لكتابة بعض السطور عن المربية الفاضلة والداعية القديرة الأستاذة بيان الطنطاوي، وكنت أتهيب من ذلك مرة بعد أخرى، وازداد ذلك مع حصولها على شهادة الدكتوراة، إنما الأولى الحديث من البداية، فليس الشعور بالتردد عن الكتابة ناجما عن أنها تثير الهيبة في النفوس؛ فصحيح أنني لم ألتقِ بها مباشرة إلا لوقت محدود، ولكن كان ذلك كافيا لأشعر أنها إنسانة عالمة متواضعة تجاه من لم يبلغ من العلم ما بلغت، وعاملة منفتحة على سواها وإن لم يضارعها في العمل بقدر ما عملت ولا تزال. ثم لم تقتصر المعرفة بها على اللقاء المباشر، بل شملت الحرص على متابعة عطاءاتها في مجال الدعوة والعلم والتربية والتعليم، عبر برامج تلفازية وممارسة التدريس الجامعية للغة العربية والدراسات الإسلامية، ثم بعد اندلاع الثورة في سورية وحرمان أطفالها المشردين من المقاعد في المدرسة، كان لها باع كبير فيما بذل من جهود لتعويضهم في حياة التشريد بما يمكن تحقيقه قدر المستطاع، لا سيما من خلال عملها في “الهيئة السورية للتربية والتعليم” على ثغر بالغ الصعوبة والخطورة، يتمثل في واقع التشريد وعقباته، واحتياجات الأطفال والناشئة، وكانت لها مبادرات مبدعة للتعامل مع ذلك الواقع، ومنها مبادرة “السيارة المدرسية الميدانية” على غرار المشافي الميدانية، وقد فصلت حول عملها في الهيئة في محاضرة استمعت إليها في آخن وكتبت بعض الخواطر عنها (انظر: خواطر – مع بيان الطنطاوي).
كثير منا – ولا أستثني نفسي – عندما يسمع بمن لهم صلة نسب أو مصاهرة مع الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، لا يملك إلا أن يتابع أمورهم، وسيجد عند كثير منهم كثيرا من العطاءات الأدبية والفكرية والدعوية والتربيوية، ولكن كلما تعمق في المتابعة، وجد أن لكل منهم ما يميزه عن سواه وأن عطاءه يعكس جهوده الذاتية، ولا نجهل أن البيئة المعطاءة عبر النسب والمصاهرة تترك أثرها الفعال، ومنه الدافع الإضافي لبذل جهد متميز، ثم تكون الحصيلة حصيلة ذلك الجهد الذاتي، وهذا ما يسري على بنات الشيخ علي الخمسة، ومنهن بيان حفظها الله، كما يسري على بناتها الثلاثة، عابدة وأروى ومؤمنة، ولكل منهن بصمة مميزة في ميدان أو أكثر من ميادين الأدب والتربية والفقه والدعوة.
بيان الطنطاوي متميزة على ذلك في أن جهودها لم تنقطع لعشرات السنين، فما لم تحصله من العلم المدرسي والجامعي قبل زواجها، استحوذت عليه لاحقا بجهد خاص شمل الشهادة الإعدادية فالثانوية، وتخرجت من كلية “اللغة العربية وآدابها” في جامعة دمشق، وهي في الثلاثين من العمر، و حصلت على شهادة “الدبلوم” الجامعية في التأهيل التربوي بعد عامين، ثم شهادة “الدبلوم” في الدراسات العليا بعد عام واحد (وبعد أعوام عديدة شهادة جامعية في التفسير أيضا) وكانت هجرتها من دمشق عقب اغتيال أختها الشهيدة بنان رحمها الله في آخن بألمانيا (١٧ / ٣ / ١٩٨١م) فمارست التدريس الجامعي في السعودية، حتى إذا اندلعت الثورة الشعبية في سورية، اندمجت في العمل ضمن اختصاصاتها من أجل أهلها ووطنها. (المزيد فيما نشره الكاتب الفاضل عمر العبسو يوم ١٠ / ٨ / ٢٠١٩م في موقع أدباء الشام تحت عنوان “الأخت الداعية د. بيان علي الطنطاوي“)
لم تمنعها الغربة ولا ممارسة التدريس الجامعي، من التمسك بأهدافها الدراسية، وأعترف أنني لم أتوقع أن تحقق بالفعل ما نوهت به في محادثة عابرة معها، لم أعد أدري هل كانت مباشرة أو هاتفية، بصدد سعيها للحصول على الدكتوراة، من الجامعة الإسلامية في ماليزيا حيث تقيم، ولعل هذا ما جعلني – كما ذكرت في مطلع هذه السطور- أتهيب الكتابة أكثر من مرة عن بيان الطنطاوي مجددا، وربما كان ذلك لشعور أثارته في نفسي.
لقد راودتني أيضا فكرة متابعة الدراسة الجامعية التي كنت قد قطعتها وأنا على أبواب الحصول على الماجستير في العلوم السياسية والقانون الدولي في بون، كان ذلك عام ١٩٧٩م، ولكن صرفت لاحقا كل بادرة تفكير بذلك، منذ بلغت الستين ثم السبعين ثم تجاوزت ذلك، هذا وأنا أصغر بعام واحد من الأخت الفاضلة بيان الطنطاوي – من مواليد ١٩٤٦م – وها هي قد أصبحت بالفعل دكتورة بيان في عام ٢٠١٩م.
وقد فهمت ما يعنيه ذلك من خلال قولها (وكنت مصممة على بلوغ الهدف حتى لو لم يبق في عمري إلا يوم واحد، السعي ليس لنيل الدرجة فقط، إنما لمتعة الوصول للغاية، ولإثبات القدرة على بلوغها رغم كل التحديات) كما نقل عنها قلم سناء نصر الله في مقالتها عن حوار مع د. بيان، نشرته يوم ٢٦ / ٨ / ٢٠١٩م في شبكة الجزيرة تحت عنوان ” الدكتوراة في العقد الثامن.. بيان على خطى والدها الشيخ علي الطنطاوي“.
وأسأل الله للأستاذة الدكتورة بيان، التوفيق وخير الجزاء، ومزيدا من العطاء، لا سيما لتحقق هدفها التالي كما ورد على لسانها في الحوار نفسه بشأن ما تنوي صنعه لوالدها رحمه الله، إذ تقول “سأنشئ وقفا باسمه وأجمع إرثه الفكري المرئي والمسموع والمكتوب في مشروع علمي تربوي يُبقي ذكره ويكون صدقة جارية على روحه تنشر علمه لينتفع به“.
نبيل شبيب