ذاكرة شخصية – مريض ٥ من ٧

(لله الحمد من قبل ومن بعد.. لقد مضى ١٥ عاما على تحرير "خواطر مريض" هذه ونشرها، وها هي تنشر الآن تباعا في سبع حلقات في باب "ذاكرة.. أيام شخصية" من هذه الإصدارة من مداد القلم، ابتداء من يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠١٧م، بعد نشرها يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠٠٢م في إصدارة سابقة، عقب دخولي المستشفى لأول مرة لإجراء عملية جراحية "بسيطة" بمعنى الكلمة، إنما تسابقت هذه الخواطر إلى القلم، في تلك الأيام ما بين الفحص الأول والخروج من المستشفى.. ولله الحمد من قبل ومن بعد)

 

حمدّت الله أنّني لم أكن أرى وجهي في المرآة فأستحيي من نفسي وأنا أتساءل دون قصد، ماذا لو كانت إصابتي قبل ابتكار جهاز التصوير المقطعي المحوري الذي كشف الجانب الأهمّ والأخطر من إصابتي.. أو ماذا لو لم ينتشر الجهاز في ألمانيا بعد، أو ماذا لو كنت أعيش في بلد فقير لا يصل غالبية أهله إلى الاستفادة من المبتكرات الحديثة؟

ما أقبح أنانيّتك وأنانيّة أفكارك أيّها الإنسان الضعيف.. حتى وأنت معتلّ مريض! تفكّر بنفسك ولا تفكّر بأحوال ما لا يُحصى من المصابين في بلدان لا يجدون فيها السبيل إلى تشخيص أمراضهم فضلا عن علاجها؟

كن صادقا مع نفسك على الأقلّ.. هل تكتفي بسماع ما يُروى عن أولئك البشر وأوضاعهم، أم أنّك تصنع شيئا ما من أجلهم، قليلا كان أو كثيرا، قد يخفّف بعض المعاناة عن الإنسان حيثما كان من الأرض.. وربما تثبت لنفسك آنذاك على الأقل، أنّك تحمل وصف "الإنسان" بحقّ.

¤   ¤  ¤

مَن المسؤول عن التخلّف في البلدان العربية والإسلامية؟

هل المسؤول هو "الفرد" من عامّة المواطنين؟ نحن نعلم أنّ النسبة الاعظم ممّا يسمّى "الأدمغة المهاجرة" -والتسمية الأصح في غالب الحالات هي الأدمغة المهجّرة والمشرّدة- إلى الغرب، هي من العرب والمسلمين، وأنّ المتخصّصين منهم في مختلف الميادين العلمية والتقنية، بما فيها الميادين الطبية، يحتلّون مواقع قيادية وإدارية عالية في مجالات تخصّصهم!

مَن المسؤول عن عدم وضع المخطّطات اللازمة، وتوفير الظروف الملائمة، لاستيعاب تلك الطاقات الاختصاصية القادرة على قطع خطوات كبرى على طريق التقدّم والتطوير؟

مَن المسؤول عن تدمير قاعدة "الشخص المناسب في المكان المناسب" وعن تقديم الولاء للحاكم وحاشيته على الكفاءات والولاء للبلد وأهله؟

إنّ المسؤولية بكلّ وضوح وصراحة تقع على عاتق الأنظمة، وإن التخلّف وسواه من الأمراض التي نعاني منها في بلادنا، نتيجة مباشرة من نتائج ممارسة التبعيّات في مختلف الميادين، واعتبار ذلك "سياسة"! وإنّه لمن المخزي في الحاضر والخطير على المستقبل، أن يبقى أيّ مسؤول سياسي في منصبه، أيّا كان ذلك المسؤول وأيّا كان لقبه وبأيّ حجّة أو ذريعة، وهو عاجز عن أداء مسؤولياته في سائر الميادين بل حتّى في حالة التقصير عن أداء مسؤوليته في ميدان أساسي واحد مثل تأمين الأوضاع الصحية والطبية كما ينبغي، لسكان البلد الذي يحكم فيه؟

¤   ¤  ¤

ليس صحيحا ما يقال بصدد أنّ "نقص المال" هو السبب الأول من وراء تخلّف بلادنا العربية والإسلامية! القطاع الطبي والصحي شاهد صارخ على ذلك. ولننظر على سبيل المثال في أنّه منذ ما عُرف بثورة أسعار النفط، لم ترتفع -إلاّ قليلا- نسبة الأموال المخصّصة لقطاع البحوث العلميّة في ميدان الطبّ وسواه، ولا لدعم التخصّصات المحلية وتخفيف استيراد المتخصّصين الأجانب، ولا لدعم الصناعة المحلية للمواد الصيدلانية والأجهزة الطبية.. ولكن ارتفعت النفقات التي تُصرف على "العلاج في الخارج" بصورة مطّردة، مع ما يتبع لتلك النفقات بحقّ ودون حقّ، فارتفع بذلك ما يسمّى "سياحة العلاج الطبي" من الدول النفطية العربية إلى الدول الغربية ارتفاعا مذهلا، فلا مبالغة في القول إنّ الواردات المالية الغربية من هذا القطاع "السياحي" يفوق بحجمه واردات البلدان العربية الموصوفة بالسياحية إلى حدّ بعيد. 

ويمكن -للأسف- قول ما هو أعمق مغزىً من ذلك وما يكشف عن كثير من الأمور المسيئة، عند الاطّلاع المباشر على "خلفيّات" التعامل مع المرضى العرب ومرافقيهم في الغرب، أثناء إقامتهم فيه أو الاطلاع على تصرّفات فريق ممّن يحضرون تحت عنوان العلاج، ويستهدفون أمورا أخرى.

¤   ¤  ¤

بعض الأمراض التي يأتي مئات الألوف من المرضى "العرب" للغرب بدعوى علاجها، أبسط وأهون شأنا من أن يقال إنّ علاجها غير ممكن داخل البلدان العربية نفسها، بغضّ النظر عن درجة التخلّف فيها. كما أنشأ بعض هذه البلدان مستشفياتٍ مزوّدة بأحدث الأجهزة "المستوردة"، وباتت تلك البلدان تستعين بأطباء متخصّصين.. "مستوردين"، ويوجد من أمثالهم من العرب والمسلمين مَن يحتلّون مراكز مرموقة في مستشفيات الغرب، ولا يُستعان بهم، بل حتى المتخصّصون في القطاع الإداري لهذه المنشآت "مستوردون" في كثير من الأحيان.. فضلا عن التمييز المخزي في الرواتب وسواها لصالح الطبيب أو المستخدم الأجنبي.. على حساب "ابن الوطن"!

إنّ "عقدة النقص" تجاه الغرب عقدة خطيرة على المستوى الشعبي وعلى المستوى الرسمي على السواء.. ولكن كيف نتوقّع القضاء على هذه العقدة إذا كان في مقدمّة "وفود سياحة العلاج الطبي" في الغرب، الرئيس الفلاني، والملك الفلاني، والأمير الفلاني، وكأنّهم يؤكّدون لأهل بلادهم عدم الثقة بالأطبّاء والمتخصّصين فيها، ولا بالمستشفيات الضخمة التي أقاموها هم، والتجهيزات التي أنفقوا هم المليارات عليها!

نبيل شبيب