(لله الحمد من قبل ومن بعد.. لقد مضى ١٥ عاما على تحرير "خواطر مريض" هذه ونشرها، وها هي تنشر الآن تباعا في سبع حلقات في باب "ذاكرة.. أيام شخصية" من هذه الإصدارة من مداد القلم، ابتداء من يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠١٧م، بعد نشرها يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠٠٢م في إصدارة سابقة، عقب دخولي المستشفى لأول مرة لإجراء عملية جراحية "بسيطة" بمعنى الكلمة، إنما تسابقت هذه الخواطر إلى القلم، في تلك الأيام ما بين الفحص الأول والخروج من المستشفى.. ولله الحمد من قبل ومن بعد)
كنتَ بالأمس تمشي وتعدو وتتحرّك حيث شئت، وها أنت ذا تعرج إن مشيت، وتتألّم إن جلست، ولا تقوى على التفكير من وطأة المرض.. أما آن لك أيّها الإنسان أن تعلم أنّك {لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} – ٣٧ الإسراء-؟
¤ ¤ ¤
كم ذا تردّد ألسنتنا حتى حفظنا عن ظهر قلب وحفظ الناس عنّا، أنّ الحياة الدنيا مطيّة للآخرة.. هل جعلناها كذلك حقّا في مشاعرنا وأفكارنا وأعمالنا ومعاملاتنا؟
¤ ¤ ¤
عجبا لأمرك أيّها الإنسان الفاني!
أنت لا تملك إطالة بقيّة عمرك في هذه الحياة الفانية ثانية واحدة، وتعلم ذلك علم اليقين..
ولا تملك تأجيل موعد انتقالك إلى الحياة الباقية ثانية واحدة، وتعلم ذلك علم اليقين..
فما بالك تخدعك بوارق دنياك فتشغلك عن آخرتك، ويغريك سرابٌ عابر في حاضر أيّام عمرك المعدودة، فتعمى عن رؤية أسباب سعادة الخلود الأبديّ المديد في مستقبلك، وتقعد عن الأخذ بها؟
¤ ¤ ¤
لا بدّ أن ينعكس في واقع وجودنا شعار الإسلام الذي تعلنه ألسنتنا وأقلامنا، حتى يراه سائر الناس متجسّدا فينا، بشموله وتكامله وتوازنه، وسموّه ووسطيته واعتداله، وإلاّ فسنبقى بعيدين عن واقع الإنسان وواقع البشرية واحتياجاتها.
¤ ¤ ¤
إنّما تجتمع الدنيا والآخرة للمؤمن على قدر التزامه بشرع الله في مختلف جوانب حياته المعيشية، الخاصّة والعامّة.
¤ ¤ ¤
كم ذا نقصّر في الحياة الدنيا.. علما ومعرفة، اختصاصا وتفوّقا، إنجازا وإبداعا، تخطيطا وتنظيما، عملا وإنتاجا، بناءً وعطاء.. ونزعم أننّا مقصّرون في الحياة الدنيا لانشغالنا بالعمل للآخرة!
إذن حقّ مقتُ الله تعالى على من يخالف منّا واقعُ حاله لسانَه ومقالَه، وهو يحدّث الناس فخورا بدينه الذي يأمر الفرد المؤمن إذا كانت في يده "فسيلة" وأدركه يوم القيامة، أن يغرسها في الأرض.
¤ ¤ ¤
أيّ صفة "تديّن" زائف تلك التي ينتحلها لنفسه من يكتفي بأن يجعل الدين كلاما على اللسان وطقوسا يؤدّيها الجسد.. وهو يهمل إقامة الدين في هذه الدنيا، عقيدة وعبادة وأخلاقا وسلوكا، وعلما وتطوّرا وتقنية وصناعة وزراعة وإنتاجا.
¤ ¤ ¤
من يزعم العجز عن أداء الدور المطلوب منه للنهوض بأعباء الإسلام والمسلمين في عالمنا المعاصر، في مختلف الميادين، فليسأل عن مدى استيعابه لما يردّده لسانه من كلام ربّه جلّ وعلا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} -٤٠ الحج- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} -٧ محمد-
¤ ¤ ¤
كم حجب التعلّق بالحياة شبحَ الموت وهو قريب منك، جدّ قريب، وكم حجب الإحساس بالشباب عنك الهرم وهو كامن في أعضاء جسدك وتلوح مطالعه في صدغيك، وكم حجبت متعة الصحّة والعافية المرض وهو يسري تحت جلدك وينخر في عظمك.. وكم من نعمة ضاعت على صاحبها وهو غافل عن مجرّد التفكير باحتمال ضياعها.
¤ ¤ ¤
أحبائي.. يامن لا تزالون في مقتبل العمر!
لم افهم قطّ المعنى العميق لهذا الحديث كما فهمته هذه الأيام، عندما اجتمع ضيق الأوقات مع قيود المرض وأثقال خمسة وخمسين عاما ومخاوف أن تضمحلّ القدرة على إنجاز بعض الواجبات.. فاقرؤوا هذا الحديث مرّة بعد مرّة، واستوعبوا معناه حق الاستيعاب، واجعلوه منهجا في حياتكم، كما أراده لكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) كما ورد في صحيح الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
نبيل شبيب