خلال حوالي نصف قرن في ألمانيا لم يكن لي تماس مع جهاز أمني ألماني سوى أربع مرات، اثنتين عابرتين تتعلق بآخرين، والثالثة من سبعينات القرن الميلادي العشرين أتحدث عنها لاحقا إن شاء الله، أما ما أذكره هنا فيعود إلى التسعينات، بعد سقوط الشيوعية في الشرق ورفع شعار "الإسلام عدو بديل" وتسليط الأنظار (وتركيز التهجمات) على كل ما هو إسلامي.
كنت قد ارتكبت خطأ جسيما بتأسيس شركة صغيرة دون دراية ولا خبرة سابقة، فأفلست بعد فترة وخسرت ما كنت أملك وما شارك به آخرون معي، وأصبحت في وضع عسير فضاعفت السعي للكتابة في وسائل إعلام عربية.
وغالبا ما كنت أكتب في أحد المقاهي، فيدفع الفضول بعض الجالسين للدردشة معي حول اللغة العربية وكيف أكتب من اليمين إلى اليسار، وماذا أكتب.. فلم يكن يوجد ما يريب عندما صنع ذلك ذات يوم رجلان أنيقا اللباس؛ لولا أنهما من أولئك الذين تظهر سيماهم في وجوههم وفلتات ألسنتهم.
انتقلت الدردشة لتشمل ما أحصّله مما أنشر، والأحداث السياسية، والمسلمين في هذا البلد، وإذا بهما يلمّحان ثم يصرّحان بعرض مصدر رزق أفضل لي مقابل الكتابة بالألمانية التي أتقنها أيضا، وأدركت ما يريدان، ولكن أردت سماع المزيد، فتساءلت عن المطلوب تماما، وزادت جرعة التصريح على جرعة التلميح، بصدد معلوماتهما عن تردّدي على المساجد والمراكز الإسلامية، وأنني خففت من ذلك مؤخرا، وبدا أنهما يعيدان ذلك إلى خلاف مع القائمين عليها، ويوجد شيء من ذلك فعلا ولكن حول آليات العمل وليس جوهره ومنهجه، وكانت الرغبة في التفرغ للكتابة والتأليف سببا أهمّ.. إنما لا يخفى من الحديث أن المراقبة قائمة إلى حد كبير، ولا نكاد نتكهّن بوجودها فضلا عن أن نعلم بأسبابها وأن نتعامل بجدّ معها.
باختصار.. أراد الرجلان استغلال وضعي المالي آنذاك لإغرائي بدخل وفير مقابل التجسس على إخواني.
رفضت وانصرفا بأدب..
ليست هذه مسألة فردية، ولذا يجب أن يكون في محور ما تقوم الدولة المستقرة عليه في حصيلة ثورات التغيير في بلادنا هو تثبيت منظومة الأخلاق نظريا وعمليا، وتحقيق المعيشة الكريمة الفردية على أرض الواقع، وتشريع ما يكفي من الأنظمة لمواجهة ما يقع رغم هذا وذاك.
لا ريب أن عمل المخابرات في مقدمة ما يجسّد القاعدة الكريهة المعروفة: الغاية تبرر الوسيلة.
ولكن يوجد ما هو أسوأ من ذلك، فلدى أجهزة مخابرات معتبرة غايات مستمدة من تصورات وطنية أو قومية أو مصلحية عامة، حسنة في نظر أصحابها، ويستخدمون وسائل مشروعة وغير مشروعة، ومنها العدوانية المؤذية، بينما تنحطّ الغاية -وليس الوسيلة فقط- لدى أجهزة مخابرات الطغاة إلى مستوى الخسّة والدناءة ومعها الوسائل العدوانية المؤذية المتبعة.
الأهم من ذلك:
بقدر غياب الرقابة الفعالة يزداد -بسبب وجوب سرية عمل المخابرات- احتمال تجاوز حدودها القانونية والأخلاقية، وبين أيدينا أثناء كتابة هذه السطور شاهد -كمثال- فيما كشفه المخبر المنشق (سنودن) عن المخابرات القومية الأمريكية، إذ لا يسلم من أذاها الشعب الأمريكي نفسه، وكذلك الشعوب أو الحكومات الصديقة، ناهيك عمن تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية ويعتبر نفسه من التابعين -وما أكثرهم- أو من الأعداء.
من أوجب الواجبات في بناء الدولة في بلادنا التوافق الوطني الشامل على خضوع الأجهزة الأمنية جميعا لمبادئ وآليات تجسّد الشفافية والرقابة والمحاسبة، وتضمنها دستوريا وتطبيقيا، انطلاقا من سيادة الشعب على السلطات، وعبر ممثلي الشعب المنتخبين في اقتراع حر نزيه مضمون، ثم عدم استبقاء ثغرة من الثغرات لنفوذ جهة مصلحية ما، ولا نفوذ سلطة تنفيذية دون رقابة دستورية وقانونية، مهما كان شأنها.
لا يقتصر الأمر هنا على الحقوق والحريات الفردية وعلى القضايا العامة (على مستوى الوطن.. بحكم أوضاع التجزئة في بلادنا) بل يشمل القضايا المشتركة الكبرى أيضا، لا سيما عندما تكون في مكانة قضية بمستوى قضية فلسطين المحورية المصيرية.
نبيل شبيب