ليس لي في هذه "اليومية" نصيب كبير، فليس فيما يرتبط بي منها ما يعادل قطرة من بحر الحدث الجلل المتعلق بها، ففي السابع عشر من آذار ١٩٨١م اغتيلت الشهيدة بنان الطنطاوي العطار، أم أيمن رحمها الله، في مدينة آخن بألمانيا، على بعد مائة كيلو متر من بون التي أقطن فيها، وكنت قد تعرفت على عصام العطار لأول مرة أثناء إحدى خطبه الأشهر من سواها في مسجد جامعة دمشق، والتي أدّت إلى سقوط إحدى حكومات الانقلابات العسكرية آنذاك، ولقيته عام ١٩٦٦م لأول مرة بعد أن حطّ بي جناح الغربة قصد الدراسة في ألمانيا وحط به المقام في مسجد بلال في آخن بألمانيا، بعد ترحاله بين عدة بلدان عربية وأوروبية، عندما حيل بينه على حدود سورية مرارا وبين العودة من فريضة الحج عام ١٩٦٤م إلى بلده.
منذ ذلك الحين وهو أستاذي الجليل، لأسباب عديدة في مقدمتها سببان اثنان، حركيّ يتمثل في قوله: الإسلام هو الأصل والحركات كلها وسائل، الأخوّة في الإسلام وليست في التنظيم، نحن جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين، التعاون من أوجب الواجبات، والسبب الثاني سلوكيّ يتمثل في قوله: لا يوجد أصغر من أن يعلّم ولا أكبر من أن يتعلّم.
. . .
اشتهرت مخابرات الحكم الاستبدادي بسورية بعمليات الاغتيال الغادرة خارج الحدود، الشبيهة بما تصنعه مخابرات موساد الإسرائيلية والمخابرات المركزية الأمريكية.
وكنت أعلم أن عصام العطار كان مع أسرته مستهدفا، ولكن لم أكن أتصور أن تبلّغني المخابرات الألمانية أن اسمي ورد مع اسمه على قائمة عناصر من المخابرات السورية تم إلقاء القبض عليهم آنذاك -فترة أحداث الثمانينات من القرن الميلادي العشرين- أثناء تسللهم إلى الأراضي الألمانية.
لم أكن أملك، ولا أملك حتى الآن، في عالم السياسة سوى ما يخطه هذا القلم، ولم أكن يوما عضوا في حزب سياسي أو جماعة كبيرة معروفة، ولا شغلت منصبا من المناصب، ولا تطلعت إلى ذلك أصلا، ولا أعتبر هذا القلم من الأقلام المشهورة، ولا أحسب أن ما يكتبه يصل عبر وسائل إعلام جماهيرية إلى حشود كبيرة.. فما الذي صنعت إذن؟
المشكلة ليست في الطرف المستهدف فقط.. بل فيمن يبلغ به الخوف على تسلطه وفساده مبلغا يجعله يخشى من الكلمة ولو كانت من مستوى الهمس وراء الجدران.
طلب إليّ الجهاز الأمني الألماني المختص أن أكون حذرا وأن أنتقل من البيت الذي أسكنه في حي متطرف من بون إلى حي آخر (وفعلت ذلك لاحقا) ولم يفارقني الظن أن فيما قيل لي بعض المبالغة على الأقل، إنما اتبعت التعليمات وأخذت حذري قليلا، لا سيما وأنني كنت أغادر المنزل مرارا في ساعة مبكرة من الفجر إلى مكان عملي على بعد ٣٠ كيلو مترا تقريبا.
في فجر أحد الأيام كان للحذر مفعوله إذ لمحت أثناء اقترابي من موقف سيارتي وجود شخصين في سيارة أخرى في تلك الساعة المبكرة، وقد أوقفت بطريقة شاذة وكأنهما يراقبان سيارتي، وتمكنت من الركوب من الباب الآخر بهدوء كبير، وإن هي إلا لحظات حتى انطلقت من المكان.
لحقت بي السيارة المريبة في شارع عام، وتأكدت من ذلك بتخفيض السرعة لتتجاوزني، وبمضاعفة السرعة حينا آخر، وعندما انعطفت فجأة نحو اليمين لم يدركا على ما يبدو أنني تعمدت الدخول في مرآب مركز للشرطة، حتى إذا أصبحا في المرآب خلفي كنت قد تركت السيارة مسرعا ودخلت عبر باب المركز، فلاذا بالفرار على الفور.
لم يقع حادث آخر من هذا القبيل مرة أخرى، لا سيما بعد أن انتقلت إلى منزل مجاور لمبنى سفارة ألمانيا الشرقية سابقا، وكنت بذلك تلقائيا في أكثر مناطق بون حماية.
لا ريب أن المخابرات الألمانية كانت حريصة ألا تقع عمليات عدوان أو اغتيال على الأراضي الألمانية، إنما كان لي بعض الخبرة معها أيضا في ميدان آخر.
نبيل شبيب