بون دار الغربة

منذ عام ١٩٦٥م حتى...

ذاكرة شخصية

كانت سنوات الوحدة بين مصر وسورية فالسنوات الأولى من الستينات في القرن الميلادي العشرين بداية وعيي على موقع الإسلام في حياة الإنسان، وفي المجتمع، وفي القضايا السياسية وسواها، إلى جانب الرؤية أو التأثر سياسيا بمجرى الأحداث.

تلميذ مشاغب

في آخر عامين في المدرسة الثانوية، بدأت أعبر عما يجول في نفسي من إحساس بضرورة التغيير، وقد بدأ حكم حزب البعث عبر انقلاب ٨ / ٣ / ١٩٦٣م، وبدأ يفرض الوجود العسكري والسياسي الجديدين حزبيا، وارتكب لذلك أكثر من جريمة في عامي ١٩٦٤ و١٩٦٥م منها:

قصف جامع السلطان في حماة لإخماد حركة تمرد محلية ذات توجه إسلامي.

اقتحام المسجد الأموي بالآليات العسكرية لإخماد حركة تمرد نقابي وحقوقي.

استبعاد القادة العسكريين غير البعثيين من المراتب العليا في القوات المسلحة.

إصدار أول أحكام إعدام صورية في تاريخ الجيش السوري، وتنفيذها بحق ٢١ ضابطا بعد إخماد محاولة انقلابية.  

حملات الاستيلاء على النقابات الحساسة كنقابة المحامين وعلى الأجهزة الحقوقية كالقضاء.

حملات تبديل المعلمين في المدارس بمعلمين من أصحاب التوجه البعثي.

تشكيل فوقي لاتحاد الطلبة للسيطرة على جيل المستقبل.  

في تلك الأجواء بدأت بممارسة أنشطة تمرد بدائية في حدود ما يمكن لتلميذ صنعه، فكنت أوظف مسؤوليتي الطلابية عن رئاسة اللجنة الثقافية للتعبير عن الرفض الطلابي والإسلامي للحكم البعثي، وأستخدم لذلك إذاعة ومكتبة ومجلة جدارية كنت قد أسستها في مدرسة ابن العميد بحكم مسؤوليتي عن الجنة الثقافية، وهو نشاط ما لم يخل من المخاطرة أثناء الدراسة، حتى أن مدير المدرسة استدعاني يوما وأوعز لي أن أغادر المدرسة على عجل، ولا أعود إلا بعد الاطمئنان على سلامتي، بعد أن علم أن مسؤولين من اتحاد الطلبة قادمون لمساءلتي.

كما امتنعت عن المشاركة في أنشطة الفتوة شبه العسكرية وكانت من شروط الحصول على الشهادة الثانوية، وغادرت معسكر الفتوة الصيفي في منطقة نبع بردى متحديا عدم السماح لي بذلك. وتجنبت المشاركة في مهرجان عسكري للاحتفال بيوم الانقلاب العسكري الحزبي البعثي، وهو احتفال سنوي أضافه الحزب الحاكم ليحل تدريجيا مكان احتفال سنوي وطني وشعبي ورسمي بيوم ١٧ نيسان / إبريل، وهو يوم الذكرى السنوية لجلاء قوات الاحتلال العسكري الفرنسي في سورية.

أثارت بذور ممارسة الرفض والتمرد هذه خشية أبي عليّ من عواقبها، فقد علمت بعد سنين، أنه كتب لأختي في ألمانيا لتسعى من أجل قبول دراسة جامعية لي ليرسل بي خارج البلاد، وهذا ما حصل بالفعل، فبدأت فترة اغترابي منذ أيلول / سبتمبر سنة ١٩٦٥م، ولم أعد أدري إن كانت ستنتهي في يوم من أيام ما بقي لي في هذه الحياة. 

قبل الاغتراب

استحكمت المعركة بين الإسلاميين والبعثيين في سورية أثناء ما سمّي حكم الانفصال، لا سيما في جولة انتخابات نيابية نادرة المثال في تاريخ سورية الحديث.

آنذاك قُدّر لي أن أسمع أشهر خطب عصام العطار، قائد التيار الإسلامي في سورية آنذاك، وهو يلقيها في مسجد الجامعة بدمشق، وقد أدت بعد أيام إلى سقوط حكومة مدعومة من الشيوعيين وعسكريا، وتركت كلماته أثرا عميقا في نفسي إلى جانب الأثر الذي تركته أحاديث كانت تدور بين الناس يومذاك، دون أن أدرك التفاصيل إدراكا عميقا أو كافيا، ومحورها أن أحمد كفتارو الذي كنت أتردد على مسجده في حي الأكراد / ركن الدين لاحقا، أعلن تأييده لانتخاب المرشح البعثي رياض المالكي، على حساب المرشح الإسلامي الشيخ مصطفى السباعي، ومنذ ذلك الحين استقرّ الاقتناع عندي أنه لا ينبغي أن يكون التعامل مع الحدث السياسي تعاملا مرتبطا بالانتماء إلى تنظيم ما، بل الأهم هو التصور والفكر والاتجاه القويم، مع التنظيم أو بدونه.

هذا المعنى كان في مقدمة ما جمعني مجددا على الطريق التي اختارها عصام العطار لنفسه ومن سار معه، وهو يطرح فيما يطرح منذ أواسط الخمسينات من القرن الميلادي العشرين أن:

الإسلام هو الأصل والحركات كلها وسائل، وأن الأخوّة في الإسلام لا التنظيم، وأن كل منظمة هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين. وأن التعاون من أوجب الواجبات.

فقد شاء الله لي اللقاء به بعد أن استقر بي المقام في ألمانيا، إذ استقر الترحال فيها أيضا بعصام العطار، بعد خروجه من سورية بقصد الحج وإغلاق الحدود في وجهه ومنعه بذلك من العودة إلى بلده الأول ثم تهجيره من بلد عربي إلى آخر، إلى أن أوصله الاضطهاد إلى السجن في بيروت، ومن هناك نُقل إلى سويسرا وبلجيكا، حيث بقي مريضا عاجزا عن الحركة، قبل أن يستقر به المقام في مدينة آخن الألمانية، حيث سبق أن أقام الطلبة والعمال المسلمون (مسجد بلال) فطلبوا إليه أن يكون مديرا على المركز الإسلامي التابع له، فانطلق يعمل -رغم بقايا المرض وآثاره- ليجمع الشباب المسلم المغترب على الإسلام.

عصام العطار ومسجد بلال

كان عصام العطار في ألمانيا أستاذي الذي شجعني على الكلام في جموع من المسلمين من مختلف الأعمار من الرجال والنساء، وكان يتعهدني بالعناية بصبر لم أعرف مثله في غيره، وهو مَن لا يزال لإرشاداته الفضل الأكبر في كل كلمة خطها القلم عبر عشرات الأعوام التالية، وقد استلمت المسؤولية عن تحرير مجلة (الرائد) التي أسسها في محرم ١٣٩٢هـ وآذار/ مارس ١٩٧٢م، وعندما وافق لي على نشر أول مقالة ترجمتها، كان قد صدر من (الرائد) عشرة أعداد، ولو وصلني ذاك المقال من أحد أصحاب الأقلام الناشئة هذه الأيام، لترددت في نشره. لكن منذ ذلك الحين لم أنقطع عن الكتابة في الرائد أولا، إضافة إلى تأليف بعض الكتب لا سيما عن قضية فلسطين في أواخر السبعينات من القرن الميلادي العشرين، أيام النكبة السياسية الكبرى الأولى في تاريخ القضية، ثم فيما انفسح له المجال من كتابات صحفية في عدد من الصحف والمجلات ومراكز الدراسات، وأخيرا في شبكة العنكبوت وقد أخذت مكانها بين وسائل النشر والإعلام أيضا.

منهج القلم

كان من إرشادات أستاذي عصام العطار أن نضوج القلم مشروط بكثرة القراءة، وأنه لا بد من حسن الاختيار لأمهات كتب الأدب والفكر بغض النظر عن اتجاهات أصحابها، فالوعي كفيل بتوظيف المعرفة توظيفا حسنا، حتى لِما يشمله الضعيف من تصورات وأفكار.

وكان من إرشاداته أن التعبير القوي عند الجهر بالحق والموقف الذي يمليه الواجب، لا يتطلب الشدة في الألفاظ، بل الوضوح والقوة في الفكرة وحسن الأسلوب في التعبير والأداء، فضلا عن التوقيت المناسب والظروف الملائمة.

وكان من إرشاداته أن الاهتمام بالكليات أَوْلى من الاستغراق المضيع للجهود والأوقات في الفروع والتفاصيل وخوض الخلافات حولها.

وكان من إرشاداته أن أفضل السبل لمكافحة الباطل بالقلم، هو سبيل بيان الحق، فظهور شعاع من النور يكفي لمحو أمواج متراكمة من الظلمة.

وربما وجد عصام العطار لديّ من البداية بعض الإتقان للنحو والصرف ولهجةً خطابية، ولكن كان ينقصني آنذاك الكثير خارج هذا الإطار، كي أصل إلى مستوى كتابة تصلح للنشر أو مستوى إلقاء ما قد يفيد الاستماع إليه. والقسط الذي حصلت عليه مع الزمن من هذا (الكثير) هو ما أدين به من بعد فضل الله تعالى، لإرشادات عصام العطار، وهو لا ينفك عن التشجيع حينا، والتقويم حينا آخر، والتصويب حينا ثالثا، والتعليم حينا رابعا، دون أن يشعرني مرة واحدة بأن التشجيع أتى بعد ضعف في الكتابة، ودون أن يبلغ التقويم من الشدة ما يستحقه الاعوجاج في القلم، أو أن يحمل التصويب عتابا على خطأ جسيم، أو أن يرافق التعليم الشعور بأنه يأتي لِمن يقف على أول درجات السلم بين يدي من صعد إلى ذروته، وهو الذي لم يفتأ يردد على مستمعيه، أنه لا يوجد أحد أكبر من أن يتعلم ولا أصغر من أن يعلم، وأن الإسلام في حاجة إلى (جيل جديد يتفوق علينا في كل ميدان من الميادين) جزاه الله تعالى عني وعن كل من انتفع بعلمه وفكره واستقامته وقلمه وجهاده المتواصل واستعلائه على مرغبات الدنيا ومرهباتها خير الجزاء في الدنيا والآخرة.

الحمد لله

ما كان هذا القلم إلا لحمل الفكر الذي أعيش له كما يريني إياه الإسلام بعونه تعالى، وقد أخذ الفكر اتجاهه وحمل معالمه الأولى من خلال معايشة أستاذي الجليل من كثب عبر العقود الماضية، ولن أبدأ الحديث مفصلا عن ذلك، فجل ما أكتب يتحدث ببعض ما أعطاه، فما كان فيه الصواب فبفضل الله تعالى أولا، وأحمد الله أن كنت تلميذا له فيه، وأما الزلل والخطأ، فمن نفسي، أستغفر الله تعالى عليه، وجزى الله خيرا كل من يعين على استدراكه بنصيحة أو نقد أو تنبيه.

حرر النص الأصلي لأولى إصدارات مداد القلم يوم: ٢٣/ ٩/ ١٤١٨هـ و٢١ /١/ ١٩٩٨م، وينشر في هذه الإصدارة من محطة إضاءات بعد تعديل التبويب والإخراج.

ألمانيابون Bonnذاكرة شخصيةنبيل شبيب
Comments (0)
Add Comment