ذاكرة ثورية – فتيات دوما

منذ فترة لم تنقطع الرغبة في تسجيل بعض المشاهد الناطقة بالعزة والطاقة الثورية المتفجرة، مما عايشه كاتب هذه السطور أثناء تواصله قدر المستطاع مع جيل بدأ يصنع المستقبل للغد، وهو يصنع الثورة اليوم، لا سيما في سورية، وكذلك الرغبة في العودة إلى بعض ما سبق تسجيله من تلك المشاهد، لنشره في باب شؤون ثورية من ذاكرة الأيام في مداد القلم.

لم يكن سهلا تنفيذ هذه الرغبة فقد كان القلم يميل إلى ترتيب أولويات أخرى، ووجدت نفسي يوم أمس أمام مشهد جديد يطالبني بالوقوف أمامه موقف الإجلال والتقدير، مع ازدياد رسوخ الثقة بأن مستقبل شعوبنا وبلادنا تصنعه مسارات أخرى لا نتوقف لديها ونلاحظها إلا قليلا، غير تلك التي تثير فينا الألم ولدى بعضنا اليأس والقنوط، كما كان عبر مجزرة الكيمياوي الهمجية في خان شيخون، وقد غاب وراء الإحساس بقسوتها الحديث عما تتعرض إليه بقاع سورية أخرى، ومنها الغوطة الشرقية التي شهدت مئات الغارات خلال أيام معدودات، وسقط خلالها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وكان لمدينة دوما نصيبها من ذلك، وقد فقدت أكثر من ثلاثين شهيدا في بضع دقائق يوم ٣/ ٤/ ٢٠١٧م.

كنت على موعد في اليوم التالي في إحدى الجلسات لمدة شهر عبر الأثير مع عدد من فتيات دوما، في إطار دورة تدريب إعلامية عن بعد، وكنت أستحضر أمام عيني مشهد الأمس وأستعد لتأجيل الموعد، فما توقعت أن يتسنّى الحضور لفتيات في مقتبل العمر إلى مكان اللقاء من أنحاء دوما، حيث لا تنقطع الغارات الجوية الآثمة، ولا القصف المدفعي والصاروخي، وقد بات يتركز أكثر فأكثر على استهداف أماكن تجمع أهلنا المدنيين من أسواق ومؤسسات، انتقاما مما تتلقاه العصابات الأسدية المسلحة والميليشيات المستوردة من هزائم منكرة في ميادين المواجهة المباشرة في أحياء دمشق وريفها.

على النقيض من توقعاتي كان الحضور مكتملا.. واستحييت من نفسي.

رغم ذلك طرحت قابلية تأجيل الموعد إذا أرادت الفتيات ذلك، فلربما يفضلن البقاء قرب أهلهن ليطمئن الجميع على بعضهم بعضا.. ورفضت الفتيات إلغاء الجلسة أو تأجيلها.. واستحييت من نفسي مرة أخرى.

خلال ربع ساعة فقط في مطلع الجلسة سمعت عبر العالم الافتراضي خمس مرات صوت طائرة مقاتلة في أجواء دوما يعقبه صوت انفجار ما تلقيه من بضاعة الموت في مكان ما من المدينة، وقيل لي إنه على ما يبدو على بعد ٤٠٠-٥٠٠ متر من مكان تجمع الفتيات (لا أريد ذكره وأقدّر كثيرا جهود من يعملون هناك) حيث يوجد جهاز مشترك لتتابع الفتيات من خلاله ما يقدّمه المتحدث إليهنّ حول فن الكتابة الصحفية وهو يجلس آمنا وراء مكتبه على بعد أكثر من ٤٠٠٠ كيلومتر..

وتحت تأثير تعاقب الغارات عرض المتحدث مجددا قطع الجلسة بسبب الغارات المتعاقبة.. ولم توافق فتيات دوما على ذلك واستحييت من نفسي مرة ثالثة..

ثم سلّمت أمر "مخاوفي" لله، وتابعت الحديث إلى نهاية الوقت المخصص له وزيادة، وشعرت بأنني أصغر بكثير مما أقول وأنا أطالب الحاضرات، أن يعقدن العزم -إذا قررن خوض ساحات الإعلام المعاصر- أن تكون كل واحدة منها متميزة ومتفوقة بقلمها وبأداء الرسالة الإعلامية من خلاله وحمل أمانة الكلمة كما ينبغي، فأتحدث بذلك حديث من "يوجّه جيل المستقبل" كيف يعمل.. وأشعر أنني أمام جيل من العمالقة الكبار، صنع الثورة، وبدأ يصنع التغيير، وهيهات لهذا الجيل من شعوبنا الأبيّة أن يُقهر، مهما بلغ إجرام الطواغيت الصغار في بلادنا وأسيادهم في عالمنا.

إليكن يا فتيات دوما وإلى جميع من يعمل لصناعة المستقبل في دوما وأخواتها، فتيات وشبابا، أصدق تحية من أعماق قلب أحد الراحلين قريبا مع أمثاله من جيل يسلّم لكم الأمانة، ويدعو الله أن يحفظكم ويحميكم وينصركم.

نبيل شبيب