ذاكرة ثورية – حمزة في داريا وقلب سورية

في يوم ٢٩/ ٤/ ٢٠١١م انطلقت مظاهرة أخرى من مظاهرات الغضب الشعبي في حوران، وتوجّهت من الجيزة نحو درعا البلد، وعند مرورها قرب "مساكن صيدا" اعتقل جلاوزة الطغيان الاستبدادي عددا من المتظاهرين في مقدمتهم تلامذة من "مدرسة الأربعين" في درعا البلد، ومن هؤلاء حمزة الخطيب ورفيقه ثائر الشرعي، رحمهما الله وسائر شهدائنا من الأطفال وسواهم في أنحاء سورية وأخواتها، وأنساهم بالجنة ما ذاقوا من ويلات في دنيا الطغيان والخذلان.

لم تكن هذه المرة الأولى لاعتقال أطفال الثورة في درعا، بل كانت اعتقالات سابقة هي الشرارة لانطلاق المظاهرات في سائر بلدات حوران وأخواتها من المحافظات السورية، وكان من أوائل الأطفال المعتقلين في درعا:

معاوية وسامر من آل صياصنة، أحمد وعلاء ومصطفى ونضال وأكرم وبشير ونايف ونبيل ومحمد أمين من آل أبا زيد، وأحمد وعبد الرحمن من آل الرشيدات، وأحمد ومحمد أيمن من آل الكراد.. ويوسف سويدان، وعيسى أبو القياص.. وغيرهم.

. . .

مفعول الترهيب على أمثالنا

كان حمزة ورفاقه ممّن كتبوا على جدران مدرستهم من قبل: "جاك الدور يا دكتور" أي (آن أوان سقوطك مثل بن علي ومبارك آنذاك..) والخطاب للطاغية الصغير بشار ابن أبيه حافظ، ويبدو أن اعتقال الأطفال كان انتقاما لتلك الكتابة على الجدران، وإرهابا لأهل سورية، بعد أن بلغت إرهاصات ثورتهم الشعبية مداها.

ويعزّز القول بأن الهدف الأول هو "ترهيب الأهل" أن أجهزة المتسلّطين على سورية سلّموا يوم ٢١/ ٥/ ٢٠١١م جثمان حمزة الشهيد لأهله، وعلى جسده آثار تعذيب يشيب لفظاعته الولدان، ولم تكن تلك الأجهزة جاهلة بأن الصور المرعبة ستنتشر في كل مكان.. فكان مطلوبا أن تثير الفزع، فهل حققت ذلك؟

يبدو أنني من "جيل ما قبل الثورة".. فقد رأيت تلك الصور يومذاك وانتابتني حيث أعيش على بعد ألوف الكيلومترات مشاعر رهيبة، وأغرقتني في التساؤل عن مصير الثورة طوال ليلة كاملة، فلم أستطع إنجاز شيء، ولم يستطع القلم التعبير عن أي خاطرة في أي اتجاه من الاتجاهات..

بدا لي أن الأمل الكبير الذي أعاده الشعب الثائر وأعاد معه الحياة لسورية وأهلها في المعتقل الكبير وفي المنافي قد واراه التراب الذي وارى تلك الأجسام اليافعة الطاهرة.. فأصبحت أتساءل، وأحسب أن كثيرا مثلي كانوا يتساءلون بمنطق ما قبل الثورة:

بعد انتشار تلك الصور منذا الذي يمكن أن يترك فلذات كبده يخرجون في "المظاهرات السلمية" ضد المتسلّط المجرم؟

. . .

وأتى الجواب من "أمهات أطفالنا"..

كانت درعا قد شهدت قبل أيام سقوط الفوج الأول من شهداء الثورة "السلمية من جانب واحد"، وكانت مدن أخرى (بانياس.. حمص.. وسواهما) قد سددت من دماء شهدائها الأوائل أيضا أولى دفعات ثمن الثورة طلبا للحرية والكرامة.. وتميّز شهداء داريا بالذات فقد عرفت بأنها -مع غيّاث مطر وأقرانه- في مقدمة معاقل "الروح السلمية" للشعب الثائر.

في صباح اليوم التالي لانتشار الصور المرعبة القادمة من درعا، انتشرت أخبار مصورة أخرى قادمة من داريا، لمظاهرة انطلقت في شوارع المدينة ردا على جريمة قتل حمزة ورفاقه، وكانت مظاهرة للنساء السوريات الحرائر من الأمهات، وكان مشهدا لا يُنسى، ولا يكفي للوفاء له ذرف الدموع.. لقد خرجن في داريا وكل منهنّ تمسك بيدها فلذة كبدها وتصحبه معها، متحدية الطاغوت وجرائمه:

لن ترهبونا بالخوف على أولادنا.. ولن نبيع ثورتنا من أجل حريتنا وكرامتنا.

منذ تلك اللحظة لم يفارقني اليقين قط أن هذه الثورة الشعبية ستنتصر رغم إجرام الطاغوت ورغم كل من يسكت على إجرام الطاغوت ورغم أنوف كل من يشاركونه في إجرامه..

هذا شعب لا يمكن أن يعود إلى العبودية بعد أن دفع ثمن تحرره من دماء أطفاله وآلام نسائه وإحساس القهر في قلوب كثير من رجاله.

(ولا يغير من ذلك ما يجري من اقتتال في الغوطة الشرقية حاليا أثناء تحميل هذه السطور في مداد القلم يوم ٢٩/ ٤/ ٢٠١٧م)

نبيل شبيب