في منتدى "السقيفة" الحواري الشبكي (قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الكبرى) كتبت أخت كريمة تطلق على نفسها اسم "الأبية" سؤالاً دفعها إليه ما تقرؤه من عبارات تؤكّد الثقة بالله، والثقة بخروجنا رغم الويلات المحيطة بنا وداخل أرضنا (وكانت حرب احتلال العراق في ذروتها الأولى) من نفق الذلّ والضعف إلى علياء العزّة والكرامة.. كتبت تقول:
"هل لي أن أسألكم -أيّها الإخوة جميعا- من أين تستمدّون هذا الأمل وانشراح الصدر؟؟ وكيف تستطيعون الإبقاء على جذوة الشموخ موقدةً في قلوبكم؟؟ كيف.. وكلّ ما يحيط بنا يحطّم.. يزلزل.. يدكّ الجبال فضلا عن القلوب"!!
حاولتُ الجواب، فكانت هذه الكلمات
. . .
أستمدّ هذا الأمل من كلماتِك أنت، ومن وجود أمثالك في صفوف هذا الجيل الجديد، وأحسبك في مقتبل العمر، حيث يبدأ الإنجاز، ولا يتحقّق الإنجاز العملي دون وجدان حيّ، وحياة الوجدان هي ما أراه ينتشر انتشارا واسعا في هذه الحقبة من تاريخ المسلمين الحافل بالنكبات منذ أربعة أجيال على الأقلّ.
أستمدّ هذا الأمل عندما أقارن بين كلماتك وكلمات أمثالك، وبين ما كان قبل جيل واحد، عندما كنّا نعايش أحداثاً شبيهةً بما يجري الآن، مثل حرب ١٩٦٧م، ومقتل عشرات الألوف في صحراء سيناء، وهزيمة بضع دول عربية أمام العدوان الصهيوني، ومثل حرب لبنان والاقتتال على أرضه واليهود الصهاينة يقتلون المزيد، ومثل أيلول الأسود عام ١٩٧٠م في الأردن، ومذبحة تل الزعتر عام ١٩٧٦م في لبنان، والأمثلة المأساوية كثيرة، وفي كلّ من تلك الأمثلة من المآسي شبيهُ ما نعايشه اليوم، ولكن:
كنّا نعايش تلك الأحداث، ويجري خلالها ما يجري، ولم نكن نجد في صفوفنا ولا حولنا جيلاً من الشباب -أو الغالبية- يحسّ بمثل ما تحسّين به، ويتكلّم بمثل ما تتكلّمين، وينادي إلى مثل ما تنادين إليه، بل كانت الغالبيّة العظمى، منساقة انسياقا أعمى وراء ما كان يُرفع من شعارات تصنع الهزائم والنكبات صنعا!
أستمدّ التفاؤل -من بعد الأمل الراسخ في الله عزّ وجلّ- من أنّ أمثالكم من جيل الشبيبة، نشأ في حقبة تاريخية كانت تسيطر فيها كل وسائل تضليل علماني أصولي، وبدأ ينتشر الوعي في صفوفه، فكيف سيكون الجيل الذي سينشأ في محاضنكم أنتم؟
أملي الكبير، هو أن يكون التحرير على أيدي الجيل الذي تربّونه وفق ما تكتبين ويكتب أمثالك!
. . .
هل يعني ذلك أنّ المآسي ستبقى، والآلام ستستمرّ، ربّما لجيل كامل؟
من أراد جواب الحماسة بلا تفكير، يمكن أن يقول ما يشاء، وأقول: نعم سيستمرّ الكثير منها، ولكن لم تعد كما كانت قبل أربعين عاما. لم يعد أكثرها من قبيل آلام المرض المتزايد، والجرح المستفحل، بل أصبحت إلى حدّ كبير من آلام المخاض، ولم أكن في يومٍ من أيام مضت عبر عشرات السنين الماضية على ثقةٍ كمثل تلك التي أشعر بها -ليس شعور الإحساس المجرّد، بل المقترن بالوعي الموضوعي ورؤية الواقع كما هو- بأنّ تلك الآلام هي آلام مخاض ميلاد جديد.
لن يكون التحوّل من "الكلام" إلى "الأفعال" يسيرا، ولكن أصبحنا على طريق التحول، فيقظة الوجدان، تصنع الوعي وتوظّف الطاقات في مكانها، وعندما يصبح عملنا منهجيّا على الدوام، وليس ردّة فعل على الحدث فقط، عندما يصبح من نوعيّة جهود متنامية، وإنجازٍ دؤوب، وتواصلٍ حيّ دائم بين النّاشطين، مع الاستفادة العملية من ذلك التواصل.. آنذاك نكون على طريق العمل، لنصل إلى طريق "جهاد حقيقي" على نطاق أوسع وأشمل، وقد نرى الآن -بين ما حمل اسمه من صور سلبيّة عديدة- صورا قويمة حيّة هنا وهناك، ولكنها ليست كافية، فإذا تكاملت وتنامت، آنذاك يمكن أن نرى أنّه لا يوجد تناقض بين سلوك طريق العمل والجهاد بمختلف أشكاله، وبين طريق الكلام والدعوة والجهاد بالكلمة.
لن نرى آثار هذا التحوّل في صورة تطوّراتٍ مفاجئة، فليس هذا من سنن التغيير التاريخية الثابتة، ولكن عند المقارنة بين حقبة وأخرى، بين جيل وجيل، بين حدث كبير وآخر.. يمكن أن نرصد التغييرات التي تجري، وهي بإذن الله إيجابية وواسعة متنامية.
أمّا إن شئتِ -أختي الأبيّة- أن تكوني الفتاةَ التي تدعو الرجال إلى جهاد حقيقي تغييري، فما أحوج المسلمين إلى أمثالك..
على مستوى البيوتِ صناعةً للإنسان..
في المدارس والجامعات صناعة للإنسان..
في منتديات الحوار صناعة للإنسان..
وفي كلّ موقعٍ آخر من مواقع صناعة الإنسان!
وليست صناعةُ جيل من المؤمنين المجاهدين مهمّة سهلة.. هي لا تتحقّق بكلمة، ولكنّ الكلمة -ككلماتك الصادقة- يمكن أن تساهم فيها، مع الأمل في أن تقترن بالعمل.
أما من أراد حقا أن يضع سيفا في يد مجاهد، فليضعه من خلال تنشئة مجاهد له مواصفات تكفي ليرتفع بنفسه إلى مستوى الجهاد الحقّ، بمختلف ميادينه وضوابطه، كي "يؤذَن" له بالقتال كما ورد في الكتاب الكريم، فالإذن مرتبط بمواصفات التأهيل للجهاد..
ذاك شأن المتدرّب في فنّ من فنون القتال والمواجهات، وما أكثرها وما أحوجنا إلى المتخصّصين حقّا فيها وليس إلى "المتطفّلين" عليها أو "المتهوّرين" دون علم بها..
وذاك شأن المؤمن، وإلاّ ما كان قتاله جهادا..
وشأن المخلص، وإلاّ فلن يثبت في ساحة القتال..
وشأن العالِم بما يقاتل من أجله، الواعي لِما يجري حوله، وإلاّ فقد يقاتل تحت راية ضالّة مضلّة وهو لا يدري.
وكم نعاني من تغييب الجهاد الحق، وكذلك من ظهور ساحات للقتال، دون أن تتوافر فيها المواصفات المرتبطة بإذن القتال في القرآن الكريم، فهذا مما يعرقل حركة عجلة التغيير التاريخي القويمة.
نبيل شبيب