ذاكرة – بشار واللغة العربية

ـــــــــ

أقول في العنوان “بشار..” ولا أقول من المقصود، فقد أصبح ذكر اسمه مجردا يكفي لمعرفة المقصود، وربما أصبح دافعا ليتبرأ من الاسم بعض من يحملونه، كيلا تشملهم بالخطأ لعنات موجهة في الأصل إلى من اشتهر بالإجرام الهمجي. والواقع أنه اشتهر أيضا بالكذب الفاقع إلى درجة مذهلة، وهنا مثال ذكرني به ما وصل إلى سمعي من أقواله مؤخرا عن الإسلام في سورية ومستقبله، إذ انتحل أسلوب “شيخ يفتي”، وهذا الوصف من عندي بمنزلة تعبير مجازي، لا يقصد قطعا التعريض بمن حمل عن جدارة وصف “الشيخ” من علماء أجلاء بعيدين كل البعد عن المعروفين بوصف شيوخ السلاطين، المنضوين تحت لواء الاستبداد كما في سورية، علما بأنهم يخضعون بذلك لسلطان مستبد متسلط صغير، أجير للقوى الدولية وقوى إقليمية، وليس لسلطان من السلاطين بالمعنى التاريخي للكلمة، أي من حيث ما يصل إليه السلطان جغرافيا أو في إقامة صرح من الصروح الحضارية والمدنية.

عندما سمعت ما سمعت من ” الشيخ بشار” تذكرت ما كتبته عام ٢٠٠٨م ونشرته آنذاك في “مداد القلم” بعد ما ذكره في مناسبتين، في كلمته الافتتاحية للقمة العربية في دمشق، وفيما عرف بخطاب أداء القسم الثاني، وقد تبين لاحقا أنه كأنما تقمص موقع الدفاع عن العربية وهو يعطي التوجيهات الأولى لتدمير ما سبق أن عرفته  سورية من حرص على مكانة اللغة العربية في الجامعات ودور النشر ووسائل الإعلام والإنتاج الثقافي والفني، وما شمل ترجمة العلوم الحديثة مع استبعاد فتح فروع لجامعات أجنبية غربية. وأنشر هنا مع وقفة مع الذاكرة، بعض ما نشرته يوم ٣ / ٤ / ٢٠٠٨م، وقد شمل بعض ما قاله خطيبا ثم صُنع عكسه لاحقا.

قال:
(أما في الجانب الثقافي والتربوي فأمامنا الكثير من العمل في ظل هجمة خارجية ثقافية خطيرة تؤثر على انتماء الأجيال الناشئة لثقافتهم القومية الأم، والمنطلق لأي إنجاز في هذا المجال هو العمل على تمتين اللغة العربية على المستوى القومي باعتبارها الحامل الرئيسي لثقافتنا وانتمائنا وذاكرتنا، وفقدانها يعني فقدان التاريخ وبالتالي فقدان المستقبل. وأمام القمة مشروع لربط اللغة العربية بمجتمع المعرفة، كي تكون لغتنا لغة للثقافة والحياة تحفظ كياننا وتصون هويتنا الحضارية).
وسبق أن قال في كلمة أداء القسم للمرة الثانية، أي يوم 17 / 7 / 2007م:
(ويجب إيلاء اللغة العربية.. وهذا الموضوع هام جدا وأول مرة أتحدث عنه.. التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل اهتمامنا ورعايتنا.. بدأت بهذا الموضوع ووضعته فى خطاب القسم لأن هناك تراجعا بالنسبة للغة العربية المرتبطة بالهوية العربية. ويجب إيلاء اللغة العربية التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل اهتمامنا ورعايتنا.. كي تعيش معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا كائنا حيا ينمو ويتطور ويزدهر.. ويكون في المكانة التي يستحقها جوهرا لانتمائنا القومي. وكي تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات.. ولتصبح أداة من أدوات التحديث ودرعا متينا في مواجهة محاولات التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا.. ويجب أن نتذكر أن دعمنا لتعلم اللغات الأجنبية للوفاء بمتطلبات التعلم والتواصل الحضاري مع الآخرين ليس بديلا عن اللغة العربية بل محفز إضافي لتمكينها والارتقاء بها.. أول سؤال أساله بعد أي خطاب ما هو عدد الأخطاء اللغوية التي قمت بها قبل أن أسال عن مضمون الخطاب.. بدأنا نتأثر.. ومع الوقت اللغة العربية ستصبح أضعف.. وعندما تضعف اللغة العربية من السهل أن يضعف أي ارتباط آخر لنا سواء بالنسبة للوطن.. بالنسبة للقومية.. أو بالنسبة للدين.. هذه الأمور ترتبط باللغة.

*        *        *

هنا يتقمص بشار موقع السياسي الفهمان، الحريص على مصلحة الشعب والبلد والأمة، ولكن بعيدا عن حقيقة ممارسته الكذب، ينبغي التأكيد أن قضية اللغة العربية تحتاج إلى رؤية موقعها الخاص، لا سيما وأن السياسات أصبحت تقتل قضايانا المحورية قتلا، ويمكن أن تغتال اللغة العربية أيضا بدلا من أن تخدمها، وقضية اللغة العربية هي الحاضنة لسواها، بدءا بشؤون التربية والتعليم وشؤون الإعلام، مرورا بهدف التقدم العلمي والتقني والصناعي الذي لم ينتشر بعدُ الاقتناع الحقيقي بأن لغتنا العربية هي عموده الفقري الضامن للوقوف على قدميه أصلا، وانتهاء بميادين الأدب والفكر والثقافة والفنون، وجميع ذلك مما يصوغ الشخصية الحضارية الذاتية ويعطيها موقعها من هوية الانتماء إلى الأسرة البشرية.

وماذا عن الدين؟
على وجه التحديد ماذا عن الإسلام؟ أليست اللغة العربية لغة القرآن، لغة الإسلام؟ أو ليس استهداف اللغة العربية وسيلة من وسائل استهداف الإسلام في أرضه؟
وأكاد أسمع اعتراضات ذات منطلق آخر وموقع آخر ومحورها:
أو ليس تأكيد الحفاظ على اللغة العربية ومكانتها أحد مداخل ما يسمى “الإسلام السياسي” إلى تأكيد الانتماء إلى الإسلام نفسه؟
نعلم أن ما سبق من اجتهادات أو توجيهات خارج نطاق التوجيه الإسلامي على امتداد العقود الماضية، قد أوصل قصدا أو دون قصد إلى ما نعايشه في بلادنا، وهو ضربات متوالية لمقومات وجودنا، اللغوية وسواها، وكان من حصيلتها افتقاد الهوية الذاتية وعدم اكتساب أي هوية بديلة، بل وتآكل تعليلات نزعة إنسانية مزعومة، ولا يستهان بالمقابل إطلاقا بأهمية ترسيخ الانتماء الإنساني المشترك، دون ذوبان ذاتي يحول دون أن نخرج بأنفسنا من هامش الهامش في واقع حياة الأسرة البشرية.
لا يكفي إذن الجواب المتسرع في مسائل قد يستثيرها الحديث عن كلمة ذات مقاصد ومضامين سياسية وتتناول قضية اللغة العربية، ومن ذلك:
١- يمكن أن تُستخدم قضية اللغة العربية وسيلة للتفرقة، وكثير من ذلك حاصل فعلا، أو وسيلة لإيجاد أرضية مشتركة، وهنا نستخدم هذه القضية المحورية بدلا من أن نخدمها.
2- يمكن أن نخدم جميعا قضية اللغة العربية، واعتبار المنطلقات المتعددة لذلك متكاملة لا متصارعة، فتكون للمسلم لغة قرآنه ودينه، وتكون للقومي لغة قومه وعروبته، وتكون في الميادين الثقافية والعلمية والتقنية وغيرها لغة تكوين الشخصية الحضارية الثقافية الذاتية المتميزة في إطار الوعاء الإنساني الشامل المتوازن.
3- إن اللغة العربية من أعظم الأسس التي يمكن أن يلتقي عليها التوجه الإسلامي، والتوجه القومي، والتوجه “الإنساني”، والتوجه “الثقافي” إذا أخذنا في تعبير “الثقافي” بأسلوب المشاكلة اللفظية مع من يسجن كلمة الثقافة وراء قضبان توجه علماني.
4- واللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى المشتركة بين المسلمين وغير المسلمين في بلد عربي إسلامي، والمشتركة بين العرب وغير العرب فيه مع تثبيت المكانة الذاتية البالغة الأهمية للغاتهم غير العربية.
5- واللغة العربية هي اللغة الثانية المشتركة في بلد إسلامي غير عربي، إلى جانب اللغة الرسمية الأولى لأهله، مع عدم إغفال المكانة الذاتية البالغة الأهمية للغات الأخرى للأقليات فيه.
6- المطلوب في الحصيلة هو الارتفاع بقضية اللغة العربية فوق محاور الخلاف، وربطها بمحاور التلاقي على أرضية مشتركة، فمن دون ذلك تقع الخسارة للجميع، كما أثبتت العقود الماضية.

لا يتحقق الهدف في قضية اللغة العربية عبر فعاليات خطابية فحسب، وسبق أن أُعلن عام 2006م عام اللغة العربية في مصر، ثم انتقل الإعلان إلى عام 2007م مع التعليل المباشر لذلك أن ما كان يراد تنظيمه من فعاليات لم يتحقق، وأعلن عام 2007م عاما للغة العربية في الأردن، ولم تتجاوز الحصيلة حدود الإعلان.

إن ما ينبغي التحرك به بشأن اللغة العربية يجب أن يشمل مختلف الميادين، بخطوات عملية، فلا يغيب التخطيط والتنفيذ عن لعب الأطفال والناشئة، ومناهج التربية والتعليم، والمسرحيات، والأغاني، والبرامج الحوارية، والكلمات الرسمية، والمدارس والجامعات، والمؤسسات الرسمية، والإعلانات التجارية، والمساجد والمراكز الثقافية، والكنائس والندوات القومية، والإبداع في جميع ميادينه، وشبكة العنكبوت ووسائل الاتصال الحديثة وكل ما يتفرع عنها، والبحوث والدراسات والمسابقات والاستطلاعات ووسائل الإعلام.. جميع ذلك وكثير سواه هو من ميادين خدمة اللغة العربية خدمة حقيقية، وليس ميدان هذه الخدمة لقضية محورية كبرى هو الكلام في المقالات فحسب ولا ما يصدر عن المجمعات اللغوية وتصنعه جهودها المشكورة فقط.
إن للغة ميدانَ عملٍ واسعَ الآفاق، يبدأ بما يتلقنه الطفل في أحضان أبويه، ولا ينتهي عند حرص المسؤول في أي مجال من المجالات أن يكون عندما يتحدث في ملتقى أو عبر وسائل الإعلام قدوة، على الأقل في حرصه على سلامة عباراته لغويا، فيخجل من أخطائه اللغوية.
إن كل منهج تربيوي وتعليمي، وكل سياسة إعلامية، وكل إبداع ثقافي، وكل فعالية من نشاطات التوعية وسواها، مرفوض إذا أدى إلى الإسهام فيما تصنعه معاول هدم اللغة العربية الجامعة، مهما كانت منطلقات المتحركين في هذه الميادين، وإن كلا من ذلك مقبول ومطلوب إذا أدى إلى مواجهة معاول الهدم، واستعادة مكانة اللغة العربية، في تكوين الفرد وحياته العملية، وفي واقع المجتمع والعلاقات بين فئاته المختلفة.
من هنا فإن الأرضية المشتركة المرجوة في ميادين عديدة، يجب أن تقوم في ميدان اللغة العربية على معيار ثبات، وهو معيار التخطيط والعمل التطبيقي الميداني في خدمتها، بديلا عن استخدامها لأغراض أخرى.

نبيل شبيب

اللغة العربية