ــــــــــ
مقدمة من إصدارة سابقة لمداد القلم: أعددت هذا الموضوع المنشور لتحميله في مداد القلم، وقبيل ذلك بوقت قصير وصلني يوم الاثنين ١٧ شوال ١٤٢٨هـ و٢٩ تشرين أول/ أكتوبر ٢٠٠٧م، خبر مفاجئ مفجع عن وفاة هدى عابدين، الصبية الشابة، حفيدة الشهيدة بنان علي الطنطاوي رحمهما الله، وحفيدة أستاذي الجليل عصام العطار، حفظه الله، وابنة هادية العطار، الأخت الفاضلة البارة -وهي عندي في منزلة ابنتي- والتي عرفت فيها ما عرفته في أسرتها من قدرة على الصبر على مختلف النوازل العامة والشخصية، والعمل الدائب في كل ميدان عام وخاص، إسلامي واجتماعي، علمي وفكري وأدبي، ما يجعلني أشد ارتباطا بهذه الأسرة الكريمة، وما يجعل العودة إلى الحديث عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله حديث التقدير العميق والمحبة الصادقة لجميع أفراد الأسرة الكريمة، سائلا الله تعالى أن يتغمّد الفقيدة برحمته ومغفرته، ويسكنها فسيح جنانه، ويثبت قلوب أهلها ومحبيها في كل مكان، ويجمعنا وإياهم في جنة الرضوان.
ـ ـ ـ
أعطيت وعدا ثم تمنيت لو لم أتجرأ على وعد كهذا، أن أكتب لمجلة “الشقائق” شيئا بعد وفاة أستاذ الجيل، بل أستاذ ثلاثة أجيال متعاقبة، الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وهو من يقول فيه أولئك الذين هم من أساتذتي، إنه العالم العلامة، والمصباح المنير، والأديب القدير، والخطيب المفوه، أفلا يحق لي أن أشعر برهبة شديدة، وأن أمسك القلم لا لأكتب كما وعدت، بل لأبحث عن مخرج من الوعد ما دام التقصير في الوفاء به محتما. وإذ كان في الطلب إشارة إلى قرب مكان إقامتي في دار الغربة، من أستاذي الجليل عصام العطار، فلا أقل أن أشارك في الإلحاح عليه أن يكتب هو، وقد فعلت، فهو من كان في التاسعة من عمره عندما تعرف على الشيخ الطنطاوي، وكان في صحبة أبيه الذي تصفه “المذكرات” بأنه رفيق العمر، وتذكره في مواضع عديدة كما تذكر الابن عصام، زوج الشهيدة بنان الطنطاوي. وقد تعينني كلمات الشيخ الجليل رحمه الله على مخرج اليوم كما كانت تعينني في الماضي، فمنذ زمن بعيد كنت إذا ضاق بي نقاش استشهدت ببعض ما سمعته منه، أيام كنت كسائر من عرفت في تلك الأيام، شديد الحرص على سماع حديثه الإذاعي الأسبوعي، وأرجع بالذاكرة إلى تلك الفترة بعد أن طواها مرور أربعين عاما أو أقل قليلا، في دمشق قبل أن يهاجر منها ابنها الكبير في عام ١٩٦٣م، وكان حديثه الإذاعي ذاك يستقطب الصغير والكبير، ويجمع حول المذياع عصر يوم الجمعة المسلم الملتزم وغير الملتزم، بل حتى المسيحي كان يسمع ويتحدث عما يسمع راضيا، وما كنت وأقراني في المدرسة نعلم يومذاك من هو الشيخ علي الطنطاوي، لم نكن نعلم أن أول مقالة له في جريدة “المقتبس” نشرت عام ١٩٢٦م، وهو في مثل عمرنا آنذاك، ولم نعلم أن قلمه الأدبي اتخذ مكانه بين أقلام كبار الأدباء في مجلة “الرسالة” عام ١٩٣٣م وهو في الرابعة والعشرين من العمر، كان جل ما استوعبناه عن صاحب ذلك الحديث الإذاعي الجامع للعامة والخاصة، أنه من كبار العلماء والقضاة والأدباء في الشام، وأنه كانت له مواقف مشهودة في عهد الفرنسيين والمقاومة الشعبية ضدهم، وأن منابر الخطابة عرفت منه ما بزّ به معاصريه، فنذكره مع عصام العطار الذي عرفه جيل الشباب في سورية آنذاك من خلال خطبه أيضا، في الجامعة السورية وفي جامع “دينكز”، وقد ملأت الأسماع في تلك الفترة وتحركت على إيقاعاتها الأحداث. كنا نسمع صوت الشيخ علي الطنطاوي عبر المذياع فيأسرنا، ونسمع عنه في بعض المجالس فنتصوره في مكان مرتفع لا نستطيع الوصول إليه بأبصارنا، ومرت السنون، ورأيته لأول مرة مع أستاذي الجليل عصام، وكان الشيخ العلامة في زيارة لألمانيا، فرأيت كيف تجتمع مهابة العلم مع التواضع، والغضب في الله مع لين الحديث، والحدة في التعبير عن الحق مع الصبر على جهل الجاهل. ولطالما استعنت بكتبه كلما احتجت إلى كلمات بسيطة تعبر عن معانٍ جليلة، فأستعين اليوم ببعض ما جاء في ذكرياته لأتجاوز ما أوقعت نفسي به من حرج مع “الشقائق”. ففي الجزء الثالث من الذكريات يتحدث الشيخ علي الطنطاوي عن “السنة التي مات فيها شيخ الشام” الشيخ بدر الدين، ويقول فيما يقول: (كان للعلماء هذه المنزلة لما كانوا يريدون الله والدار الآخرة، ما كانت الدنيا أكبر همهم ولا منتهى علمهم، ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا فأعطاهم الله الجاه كله في الدنيا، وأرادوا رضى الله ولو بما يسخط الناس فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، وابتعدوا عن أبواب الحكام وزهدوا فيما بأيديهم، فسعى إلى أبوابهم الحكام وعرضوا عليهم كل ما في أيديهم.. كانت له في قلوب الشاميين منزلة ما وصل إلى مثلها ممن نعرف أحد، لذلك فاجأنا نبأ موته، لا لأننا نتصور أنه خالد لا يموت، بل لأننا نعلم أننا لن نجد بعده مثله). اللهم ارحم الشيخ بدر الدين، وارحم الشيخ علي الطنطاوي، وارحم سائر من سبق إلى لقائك من شيوخنا وعلمائنا الأبرار. اللهم تغمدهم بمغفرتك وإحسانك وأجزل لهم العطاء في جنة الرضوان، ولا تحرمنا فضلهم ولا تفتنا بعدهم، وعوض أمتهم عنهم بمن يتابع دربهم على أفضل حال ترضيك، ولا نقول إلا ما يرضيك، فلا حول ولا قوة إلا بك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
نبيل شبيب