ذاكرة إسلامية – مراجعات في فضائية الحوار

بادئ ذي بدء، ومع كل التقدير لفضائية الحوار وما قدّمته وللأستاذ عزام التميمي وما ساهم فيه جزاه الله تعالى خير الجزاء، فإن "المراجعات" لا تغني عن "المذكرات"، والمراجعات والمذكرات معا لا تغنيان عن كتابة نقدية ذاتية للعمل الإسلامي من خلال خبرة حيّة متفاعلة متعدّدة المواقع والجوانب والمراحل والتقلّبات، على امتداد أكثر من ستين عاما؛ فقد كانت بدايات تحرّك أستاذي الجليل عصام العطار على أرضية العمل الإسلامي والوطني والعروبي والإنساني في سنّ الشباب المبكّر، وكان ظهوره على شاشة "الحوار" الفضائية لأول مرة بحديث تاريخي شمولي بعد أن تجاوز الثمانين، وإن بدا لكثير من متابعيه عن بعد، أنّه يفوق الشباب وسواهم ذاكرة وحفظا، وعزما وتصميما، وعطاء وبذلا، وحماسة وإقداما، وفكرا ووعيا، وحرصا -يبدو مبالغا فيه- ألاّ تمسّ كلماته إنسانا، من رفاق دربه الطويل، وممّن تركوه في منتصف الطريق، وممّن كانوا يترصدونه في كلّ زاوية ومن وراء كل منعطف.

حتى أولئك الذين كانوا سبب حرمان كثير من أهله على امتداد العالم الإسلامي -وهو يعتبر أهل جميع أقطاره أهله، ويتجاوز في أحاسيسه ومنطلقاته ذلك إلى الدائرة الإنسانية البشرية جمعاء- والذين كانوا أيضا سبب حرمان قضايا أمته وعالمه وعصره، من أن يكون هو وأقرانه من العلماء الزعماء المخلصين العاملين، في موقع الريادة الجديرة بهم، والنصح والتوجيه والقيادة والإرشاد.. حتى أولئك لم ينالوا "كلّ" ما كانوا يستحقونه، وربما ما كان ينتظر أن يسمعه كثيرون، خلال ١٥ ساعة من حلقات "المراجعات" و٤ ساعات أخرى للإجابة على أسئلة وملاحظات ونداءات توالت على الفضائية من مختلف أنحاء العالم.

 

لقد كان عصام العطار في هذه "المراجعات" هو عصام العطار الذي اتخذ موقعه شابا ناشئا بين كبار العلماء المتمكّنين في سورية، وبين القادة الحركيين في العالم العربي والإسلامي، وهو عصام العطار الزعيم الذي كان يخطب في جامعة دمشق فيصنع الحدث من خلال كلماته وبما استند إليه من شعبية كاسحة شملت الحركيين وغير الحركيين، المسلمين وغير المسلمين، من ذوي الاتجاه الإسلامي وذوي الاتجاهات الوطنية والعروبية الأخرى، وهو هو أيضا عصام العطار الذي بقي ثابتا، عاما بعد عام بعد عام، وعقدا بعد عقد بعد عقد، على  طريقه الإسلامي الحر الأصيل، وعلى إخلاصه لأمته وقضاياها، والأجيال المتعاقبة حول مسيرته، فلم تنحرف به قدم تحت تأثير المغريات، حتى عاداه من كانوا يحاولون التودّد إليه بإغرائه، ولم تزّل به الخطى تحت تأثير المرهبات فجمعت ضدّه الأضداد في عالم سياسات كئيبة على المستويات الوطنية والعربية والدولية، وهو هو أيضا كما رآه من عرفه عبر فضائية الحوار لأول مرة، وكما رآه من كان يعرفه من قبل فجدّد ذكرياته معه ومن ورائه في سنوات ماضيات. 

 

من كان ينتظر من عصام العطار أن يكشف سوءات من كان سببا في معاناته على امتداد عشرات السنين، وسببا في سدّ السبل بينه وبين جيل كامل من أهله وما عايشوه من أحداث نزلت بقضاياهم إلى حضيض غير مسبوق، في موطنه الإسلامي الكبير، خاب أمله، وهو يجد عبر الشاشة رجلا مسنّا في الثمانين، لم يكن يريد من الدنيا شيئا في الماضي ولا يريد منها اليوم شيئا وهو يمدّ يديه ليحتضن كلّ من يريد أن يخدم الأمة وقضاياها خدمة حقيقية مخلصة، ويناشد مناشدة المخلص الصادق، ومناشدة من يدرك أبعاد كل كلمة يقول، وكلّ حدث يجري حوله، أن يلتقي الأهل جميعا على طريق واحد، يستعيدون به ما ضاع من إرادة حرة أصبحت مقيدة، وأرض باتت مستعمرة بمختلف الصور، وقضايا متمزّقة يتصرّف بها من يُلحق بها وبالبشرية أفدح الأضرار.

ومَن كان ينتظر أن يرى ابن الحادية والثمانين وقد ناءت بظهره السنون وجد عصام العطار ما زال رافعا هامته إلى العلياء، شامخا فوق الصغائر والتفاهات، والمغريات الكبيرة في نظر سواه، والمرهبات التي طالما انحرفت بأقدام من بدوا للوهلة من "الجبابرة" الثابتين.

 

عصام العطار الذي قدّمته فضائية الحوار بوصفه مفكرا وكاتبا إسلاميا، فاجأ كثيرين ممّن لم يعرفوه من كثب، بأنّه فوق ذلك الشاعر الأديب ذو البيان المبدع الرفيع، والمفكّر المثقف الذي يستشهد بما حفظ من أقوال الفلاسفة والمفكرين كما لا يستطيع أن يستشهد بها أهل البلاد التي انتموا إليها، واللغة التي كتبوا بها، ممّن تربّى في المدارس والجامعات ببلده على دراستها، ووجدوا فيه المفكّر القادر على الإحاطة بمختلف القضايا بمختلف أبعادها، وعلى النظرة الثاقبة الموصلة إلى الرأي الراجح في استيعابها والتعامل معها، ووجدوا فيه السياسي الذي تفتقر بلادنا وعالمنا وعصرنا إلى مثله، فلا انفصام عنده بين الإنسان والسياسة، وبين الأخلاق والقيم والسياسة، وبين المبادئ القائمة على العدالة والسياسة.

 

كم من قضية طرحتها المراجعات أبى عصام العطار أن يمرّ بها مرورا سطحيا تحت ضغط الوقت المتاح، وقد كان قصيرا للغاية، بل أعطاها أبعادها التاريخية والجغرافية، القديمة والمعاصرة، واستشهد بالواقعة وبالشعر، وبمن صنعوا الحدث في تلك القضية وبالفكر، ليجد المشاهد نفسه أمام النتيجة التي أراد الوصول إليها، من قبل أن ينطلق بذكرها لسانه.

ولكم سمعت عصام العطار في محاضرات وكلمات وخطب وجلسات صغيرة وكبيرة، مع عدد محدود من الأفراد أو في جمع كبير، بحضور الخواصّ والعوام، من كبار العلماء وممّن بدأ يتحرك على طريق العلم والمعرفة، وما سمعته مرة إلا ورصدت جديدا، وتعلمت جديدا، واكتشفت من جوانب شخصيته الموسوعية المعطاءة المتواضعة المزيد.

لم يفاجئني أنّ هذا كان حالي أيضا مع حلقات المراجعات، وإن كرّر القول أنّها "دردشات"، ومع ما أنشد من شعره أو ألقى من شعر سواه، وإن ذكر أنه لا يعتبر نفسه شاعرا، ومع وقفاته الإنسانية العميقة المؤثّرة، والتأثر بادٍ على وجهه وشفتيه، وفي كلامه وأحيانا في عبراته، وذاك ما شمل كل ضحية للغدر في عالمنا الرحيب المعاصر، فلم يقتصر على ذكر زوجه الشهيدة أم أيمن رحمها الله، التي يشهد هذا الشهر الميلادي (١٧ آذار ٢٠٠٨م) مرور ٢٧ عاما على استشهادها في بيتها، وهي اليوم في قلبه وشرايين جسده كما كانت طوال حياتها وبعد استشهادها على الدوام، وفي عبرة عينه ورجفة شفتيه وهو يتحدّث عن المصاب الجلل الآن مثلما كانت وهو يعلن دعوته فور استشهادها -رحمها الله تعالى وأجزل ثوابها في أعلى عليين- إلى جيل الشبيبة الغاضب في سورية وخارج سورية ألا ينزلقوا إلى أي عمل انتقامي، وهو الموقف الذي كرّره عبر وسائل الإعلام من بعد أكثر من مرة، وكرّره بعد سنين وسنين عندما أصبح في فترة معينة يملك التأثير على أصحاب القرار أن ينزل العقاب بمرتكب الجريمة، فأبى أن يضع اسمه وراء كشف ما ثبت موثقا بشأن من كان وراء الجريمة، حرصا على ألاّ يوظّف له موقفٌ ضد بلده.. وهو بلده الذي عقّه النظام فيه، وما عقّه أهله، وتنكّر لفضله وعلمه وطاقاته في شبابه وحتى اليوم، وما تنكّر هو لبلده يوما، ولا لقضاياه لحظة، وكان في جميع مواقفه -كما ذكر بصورة عابرة أثناء المراجعات- يرفض المرة تلو المرة التعامل على أساس وجود قضية "شخصية" له -وما أسهل الحلّ لو كانت كذلك- فقضيته الأعظم هي قضية الحرية والكرامة والعدالة لأهل بلده جميعا، دون استثناء، ولأمته وللبشرية من وراء ذلك.

 

عصام العطار.. لقد كنت إنسانا مسلما كبيرا في المراجعات.. كما كنت على مرّ العشرات المتواليات من الأعوام الماضية، وكنت فيها أستاذ هذا الجيل كما كنت طوال أكثر من ستين عاما مضت، ولا يشهد على ذلك فقط أولئك الذين عرفوك من كثب وعرفوك من خلال حياتك الحافلة بالعطاء الإسلامي والعربي والوطني والإنساني في مختلف المجالات لفترة عشرين عاما أو أكثر في سورية والعالم العربي والإسلامي، بل يشهد على ذلك أيضا جيل كنت في مقدمة المساهمين في الانتقال به داخل ديار الغرب من حياة تهدّدها الانحرافات إلى صحوة إسلامية بدأت تؤتي ثمارها في كل ميدان، وما زلت إلى اليوم في مقدمة من يعمل من أجل بناء جسور الثقة، معرفة وحكمة وأدبا وفكرا وتواصلا، على طريق التعايش الحضاري في خدمة الإنسان والإنسانية، ليتلاقى الصادقون والمنصفون، والأحرار العاملون، على طريق البناء والعطاء، وفي مواجهة الطاغوت بمختلف أشكاله، بصَغاره وتجبّره، وحقارته وغدره، ومطامعه وهمجيته.

كنت في المراجعات الإنسان المسلم الكبير كما كنت على الدوام، وكنت فيها أستاذي الجليل كما كنت منذ أكثر من أربعين عاما، لكم تمنّيت رغم استحالة تحقيق مثل تلك الأمنية، أن تعود لأعايشها مرة أخرى، عسى أرقى إلى مستوى تلميذ من تلامذتك، على طريق صنعتها بعطائك ومعاناتك، وعلمك وحلمك، وحكمتك وتواضعك، وإنسانيتك التي لا حدود لها.

أستاذي الجليل.. إن كانت تلك الأمنية مستحيلة التحقيق فلن أكلّ ولن أملّ -مثل كثيرين سواي- عن تأكيد الأمل في أن تضيف إلى ما سمّيته "دردشة" في  المراجعات، وإلى ما سجّلته من حِكَم حياتك المعطاءة في "كلمات" وسواها من مقالات وكتب، فتسجّل لهذا الجيل المزيد في صيغة مذكرات، أو نقد ذاتي للعمل الإسلامي، أو في أي صيغة تراها، تطرح التجربة التاريخية الكبيرة من مختلف جوانبها، ممّا يحقق الفائدة بإذن الله، وما يلبي حاجة ماسة نرصدها في حياة هذا الجيل، وما يعاصره من مخاطر في مرحلة حاسمة من حياة الأمة، ومنعطف تاريخي في حياة البشرية.

ولك من قبل ومن بعد، صادق المحبة، وخالص الامتنان، وأكبر تقدير وإجلال، وأطيب تحية وسلام.

نبيل شبيب