ذاكرة إسلامية – كريّم الراجح

 

سلام من القلب لشيخ القراء كريّم الراجح، العالم الذي ترى ضياء الود على صفحة وجهه وتلمس الصفاء في كلماته، وهو يتحدث ويصغي، ويوجز ويسترسل، ويركز على القرآن الكريم في حديثه، كما يستمع مصغيا لمن يتكلم عن بعض الأنشطة الجارية خدمة لكتاب الله وآثار ذلك في ديار الغربة، ويستجيب أيضا لرغبة الحاضرين فيتحدث عن نفسه، ومن ذلك كيف خرج (وعلى الأصح أُخرج) من سورية في مطلع الثورة، وعما كان له في سورية نفسها من دور قبل الثورة في حقبة استبدادية لا يسهل العمل فيها، ولكن لا يعزّ الموقف الصامد أمام المغريات والمرهبات، عندما يحرص العالم على علمه ومكانته وجلال قدر كلام الله تعالى، الذي يحفظه إن حفظه، ويعلي من شأنه ما دام متجسدا على لسانه وفي واقع حياته.

 

لم يكن هذا اللقاء به مساء ٢٨/ ٣/ ٢٠١٨م الأول، فقد سبقه أكثر من لقاء خلال بعض المؤتمرات، لا سيما في الأعوام الأولى للثورة، إنما كان له مذاق متميز، وهو يجلس إلى جانب أستاذي الجليل عصام العطار وحولهما عدد من الشباب وبعض من تقدمت بهم السن مثل كاتب هذه السطور، والجميع راغب في السماع أكثر من أن يتكلم أو يسأل.. كيف لا ونحن نجلس مباشرة أمام التقاء مفصلي بين التاريخ مع الحاضر والمستقبل، نجلس مع شاهدين من شهود العصر بمعنى الكمة، قد قضيا حياتهما لعقود عديدة، يتفاعلان مع عدة حقب تاريخية، عصفت أحداثها إلى الأعماق بالعرب والمسلمين والعالم في بلادهم ومن حولهم، وما تزال تسجّل كل يوم جديدا، يبشر بالتغيير مستقبلا، وإن أثار ما أثار من الألم العميق لما ينسكب على طريق التغيير من دماء بريئة، وما يتطلبه من تضحيات جسيمة، ولا يكاد يمكّن معظمنا من الصبر سوى ما لا نزال نتطلع إليه ونتوقعه من جهود جيل جديد، جهود واعية متتابعة متنامية، لتتحقق الأهداف الجليلة.

وقد كان حديثهما على التبادل، وفي أحيان قليلة كل منهما بمفرده، ينساب عبر ذكريات بدأت قبل انتصاف القرن الميلادي الماضي في دمشق، مع الكبار حقا بإخلاصهم وعلمهم وعطائهم، من رجالات العلم والأدب والدعوة، وما كان لكل منهم من دور متميز، وما كانوا عليه من تكامل بعضهم مع بعضهم الآخر.. وكان الحديث يحملنا مرة بعد أخرى أيضا إلى السنين الماضيات من الثورة الشعبية في سورية وأحداثها وتشعب مساراتها، ونقاط الضعف أو الخطأ فيها، بل وانحراف من انحرف، وثبات من ثبت، ودور الشباب المرتجى، وكيف نتجاوز الأخطاء وانكشافها مع من ارتكبها، كي نتطلع إلى تحرك متجدد طلبا للصواب والحق، وسعيا لإيجاد شروط التغيير القادم بإذن الله.

 

واستجابة لمن يسألون عن صحة أستاذي الجليل عصام العطار، وهم كثر باستمرار، وقد تجدد السؤال على ألسنة من التقيت بهم مؤخرا في إسطنبول.. استجابة لهم يمكن أن أنقل صورة مطمئنة عن ذلك من تلك الأمسية يوم ٢٨/ ٣/ ٢٠١٨م، ولعل اللقاء الأخوي مع الشيخ الراجح وحيوية الحديث لأكثر من ثلاث ساعات مع الحاضرين أعاد كثيرا من القوة لأستاذي الجليل عصام العطار، فما رأيته منذ فترة من الزمن كما كان في تلك الأمسية، أدام الله عليه العافية وزاده قوة على قوة، بل كان مما يلفت النظر وقوفه مستندا إلى المكتبة قليلا وهو يودعنا فردا فردا، وكان عهدي به في زيارات سابقة أن نودعه وهو جالس على كرسيه، ولولا الحرص على أن يكون للأستاذين الكريمين قسط من الراحة، فلربما امتدّ اللقاء إلى هزيع متأخر من الليل.

 

حفظهما الله تعالى بحفظه، فقد كانا وأقرانهما من القامات العملاقة والهامات العالية في حقبة قلّ فيه من يثبت على الطريق رغم المغريات والمرهبات على جانبيه، وهؤلاء هم من يجدر أن يكونوا في مكانة القدوة لمن لا يسأل "وماذا يفعل فلان وفلان"، بل يتحرك ولو منفردا على الطريق (حتى يغرس آخر فسيلة يحملها بيده..) إذ يحمل بين جنبيه نور العقيدة، ويشهد بعينيه رؤية حقيقية مبشرة للمستقبل كما ينبغي أن يكون، وسوف يكون إذا وجد من يسعى له، فإن أيقن وعزم انعكست في واقع حياته متطلبات الطريق علما وفهما ووعيا وعزيمة وتخطيطا وعملا وصبرا.. وآنذاك يساهم في تحقيق الفتح المبين والتمكين الموعود، وما ذلك على الله بعزيز، وذاك ما نفهمه مما نردده كثيرا وردده عصام العطار قبل نهاية الأمسية (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) كما ورد في سورة يوسف.

نبيل شبيب