ذاكرة إسلامية – الإنسان بإنسانيته

كنت أشعر بالارتياح طوال الحديث يوم الخميس الماضي (٢٧/ ٣/ ٢٠١٤م) مع أستاذي الجليل لرصد ما اعتدت عليه من تمكنه من اختيار العبارات بدقة متناهية، وطرحه ما يريد من أفكار بأسلوبه الذي يجعل السامع يصل من تلقاء نفسه تدريجيا إلى النتيجة المطلوبة، وكان مما أعرف عنه أنه بسبب معاناته المرضية، يبدأ الحديث بشيء من الصعوبة، سواء كان في خطبه في الملتقيات -وقد باتت قليلة نادرة حسب طاقته الصحية- أو عند استقبال من يقصدونه بالزيارة، وهذا شبه يومي، ولكن لا يلبث أن يعود إلى ما اعتدناه من الحيوية والاستغراق في الحديث بكليته، فكأن إقبال من يكون عنده عليه أو رغبته في طرح ما يريد طرحه حول الأحداث العاصفة ببلادنا، يعطيه دفعة تجدّد نشاطه رغم المرض.

. . .

تهدّج صوته فجأة أثناء الحديث يوم الخميس الماضي، وكم شهدت ذلك عليه في حالتين، عندما يرد ذكر زوجه الشهيدة بنان رحمها الله، أو يدور الحديث حول وجه من الوجوه المأساوية من وراء الأحداث التي يتابعها أكثرنا وكأنها مجرد "فيلم سينمائي" على الشاشة الصغيرة.

كان يتحدّث عن بعض الاتصالات الهاتفية التي يتلقاها ممن يعرف ومن لا يعرف، وكان إحداها من امرأة مشرّدة عن سورية، في أحد مخيمات اللاجئين، تصف له ما آل عليه الحال بها وبأفراد أسرتها.. وهو يقول لي:

– كانت امرأة علمت أثناء حديثها أنني أعرفها، كنت أعرفها وأسرتها وأعرف كيف كانوا يعيشون، ولا أملك ما أستطيع مساعدتها به عن بعد وقد أصبحت تعيش حياة التشريد.  

وتحدث عن سواها أيضا، عن امرأة مشردة أيضا تذكر له مع الدموع والاستغفار ما اضطرت إلى صنعه من أجل تأمين الطعام لأطفالها، تبكي وتشكو.. وانقطع الخط.. أثناء كلامها، وقال:

– حاولت مرارا أن أصل إليها مجددا، أن أطلب عبر الإنترنيت أن تعاود الاتصال بي، لأعرف أين هي وهل يمكنني تأمين مساعدة لها.. ولم أستطع.. لم أستطع الوصول إليها.

. . .

كثير من الحالات الإنسانية أصبحت في حياتنا "أرقاما نرصدها" و"أخبارا نتابعها"، ولا أدري كيف "نعيشها" أو "نعايشها" حقا.

مثل تلك المعايشة المباشرة لأسلوب تفاعل عصام العطار معها تجعلني أفهم بعمق أكبر بكثير بعض كلماته التي ينشرها عبر الشبكة، مما يبدو لنا للوهلة الأولى وكأنه مجرد موقف، أو رؤية ببعد إنساني شامل، وهو أعمق من ذلك بكثير، كقوله في إحدى كلماته القصيرة:

(أنا -يا أبنائي وبناتي- لا أقبَلُ الظّلمَ لمؤمِنٍ ولا كافر، ولا لِصَديقٍ أو عدوّ..

أنا أنشُدُ العدلَ لِكُلِّ إنسانٍ في بلادي وحيثُما كانَ مِنَ الأرض..

ولولا ذلِكَ -يا أبنائي وبناتي- كُنْتُ خائِناً لِديني وأمَّتي ووطني)

. . .

هذا بالذات ما كانت الشهيدة أم أيمن تعبر عنه أيضا، وهو ما تحدث عنه أبو أيمن بعد استشهادها:

لم تكن الأخوةُ الإنسانيةُ والمسؤوليةُ الإنسانيةُ وعالميةُ الإسلام عندها مجرَّد شعارات أو كلمات؛ ولكنها كانت حقيقةً راسخةً مُؤَثّرةً في الفكر والشعور، والضمير والسلوك

كانت الشهيد "أم أيمن" تقول:
"لا أستطيع أن أنام وعيونُ أخواتٍ أُخْرَياتٍ ساهراتٌ، إذا كنتُ قادرةً على أن أحملَ إليهنّ بعضَ البلْسَم، أو أُضَمِّدَ لَهُنَّ بعضَ الجراح، أو أُساعِدَهُنّ على بعض العَزاء"..
وكم قَطَعَتْ بي -وكانت هي التي تقود سيارتنا- مِئاتٍ ومِئاتٍ من الكيلومترات، في ضوءِ النهارِ أو ظُلمةِ الليل، وبهجةِ الصَّحْوِ أو كآبةِ المطر، واعتدال الجوّ أو شدَّةِ الحرِّ والبردِ وتَساقُطِ الثلج، لِنُلَبِّيَ استغاثةَ أُخت، أو لِنَحُلَّ مشكلةَ أُسرة، أو لِنشاركَ بقلوبنا قبلَ أجسامنا وألْسِنَتِنا بعضَ أفرادِ أُسرتِنا الإسلاميّة الكبيرة في بعض الأفراح أو الأتراح.

. . .

نعيش هذه الأيام كيف ينحر الاستبداد المشاعر الإنسانية في بلادنا نحرا.. ولن نقوّض الاستبداد حقا ولو سقطت رموزه وأركانه، إذا وصل بفعل ممارساته إلى قلوبنا ومواقفنا وسلوكنا فغابت عنها الأبعاد الإنسانية التي يجب.. يجب -رغم آلام المعاناة- أن نحافظ عليها في علاقاتنا مع بعضنا بعضا ومع سائر البشر، وأن نعتبر ذلك هو "روح الثورة" التي نريد أن نقوّض بها الاستبداد ونقوّض معه جميع ما صنعه ويصنعه في واقع حياتنا وعلاقتنا البشرية.. 

إن الاستبداد يقتل الإنسان، ويجب أن تحيي الثورة فينا إنسانية الإنسان رغم كل ما تصنعه همجية الاستبداد الفاسد ومن يدعمه أو يسكت عنه، فيعبر بذلك عن غياب إنسانية الإنسان في وجوده.

نبيل شبيب