كتب أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية، د بشير موسى نافع، يوم ٢٢ / ٢ / ٢٠٠٨م في جريدة العرب القطرية يقول:
لم تكن الوحدة حدثاً متعجلاً كما قيل بعد ذلك لتفسير الانفصال، الحقيقة أن الوحدة المصرية-السورية جاءت نتاجاً لسياق طويل من الحركة العربية نحو الوحدة، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وكان لدمشق والقاهرة فيها دور بالغ الخصوصية. وُلدت الفكرة العربية أولاً كحركة ثقافية في أوساط العلماء الإصلاحيين الإسلاميين العرب وتلاميذهم، الذين وُصفوا أحياناً باسم “السلفيين الجدد”، كما في أوساط مسيحية شامية ساهمت مساهمة بارزة في الإحياء العربي اللغوي الحديث.
منذ انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد في ١٩٠٨–١٩٠٩، أخذت العروبة الثقافية في التحول إلى حركة سياسية، عبرت عن نفسها بعدد من الجمعيات السرية والعلنية التي تأسست في دمشق وإسطنبول والقاهرة. نادى أغلب هذه الجمعيات بحقوق متساوية للعرب داخل نطاق الرابطة العثمانية، أو بدرجة من الحكم غير المركزي، وذلك في وقت أخذت النزعة التركية في السيطرة على أوساط الحكم الجديد في العاصمة العثمانية، ولأن الحركة العربية في طورها السياسي كانت حركة رد فعل على الأزمة العثمانية في عهد الدولة الأخير، ولأن مصر والمغرب العربي كانا آنذاك فعلياً خارج النطاق العثماني، لم يبرزا ضمن المطالب العربية، ولم يشكِّلا جزءاً من خيال الجماعة العربية السياسية. خلال سنوات الحرب الأولى، أطلقت الحركة العربية محاولتها الأولى لتحقيق الاستقلال، وبناء دولة عربية واحدة في المشرق، لكن القوة العربية الحاملة للمشروع كانت أضعف من مواجهة التحالف البريطاني-الفرنسي الذي قسّم الولايات العربية العثمانية السابقة إلى دول حديثة خاضعة لسيطرة فرنسية وبريطانية مباشرة.
منذ مطلع الثلاثينيات وقادة العراق يطلقون مشروعاً للوحدة العربية تلو الآخر، بعد أن أصبح العراق قاعدة رئيسة للحركة العربية، ولكن المساعي العراقية أخفقت على صخرة معارضة الحلفاء البريطانيين وخشيتهم (وفرنسا بالطبع) من اجتياح مشروع الوحدة العربية للنفوذ الإمبريالي الأجنبي، وليس حتى سنوات الحرب الثانية الحرجة أن عملت بريطانيا على امتصاص الغضب العربي المتصاعد ضد سياساتها ووجودها في المنطقة بأن أبدت نصف تأييد لفكرة الجامعة العربية، وقد نجم عن مشروع الجامعة العربية نتيجتان جوهريتان: الأولى، كانت تفريغ المشروع من جوهره الوحدوي، ليتحول إلى منتدى للتنسيق بين دول ينص ميثاق الجامعة على الحفاظ على سيادتها واستقلالها، والثانية، كانت تسلُّم مصر قيادة المشروع من نوري سعيد، وتزعُّمها، للمرة الأولى على مستوى رسمي لفكرة أن العرب أمة واحدة.
كان وقوف الملك وحكومة النحاس باشا خلف مشروع الجامعة العربية مؤشراً نهائياً وقاطعاً على أن الجدل الذي شهدته مصر بعد انهيار الرابطة العثمانية حول مسألة الهوية قد حسم لصالح العروبة، ولم يكن غريباً بالتالي أن تصبح القاهرة المركز الرئيس للتحضيرات العربية للتعامل مع المشكلة الفلسطينية في نهاية ١٩٤٧ و١٩٤٨، وأن يكون الملك المصري مَنْ اتخذ قرار عبور الجيش المصري للحدود المصرية-الفلسطينية مباشرة بعد نهاية الانسحاب البريطاني في منتصف مايو (وليس عبد الناصر أو السادات). ولعل في هذا إجابة عن الجدل الدائر اليوم حول التزامات مصر العربية، إذ حتى في عهد سيطرة بريطانيا على جزء من القرار المصري، وتواجد
لم تكن الوحدة المصرية-السورية تطوراً مرحباً به في العواصم الغربية الرئيسة وفي عدد من الدول العربية، وكما وقعت مصر الجمهورية، في عصورها الثلاثة، أسيرة رؤية سلطوية بالغة للحكم، كذلك كانت السمة الغالبة لإدارة دولة الوحدة في سوريا. أخطاء دولة الوحدة لم تكن لتبرر الانفصال، وبدون التدخلات الخارجية لم يكن يجب للانفصال أن يقع. خلال العقود التالية، دهمت المنطقة العربية سلسلة من الأحداث العاصفة، من أربعة حروب عربية-إسرائيلية، عملية سلام مزقت الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، حرب عربية–عربية مدمرة، تحولات اقتصادية كبرى ذات أثر سياسي واسع وعميق، إلى عودة القواعد العسكرية الغربية إلى الأرض العربية، ولكن حلم الوحدة لم يختف، الجامعة العربية لا تزال باقية تعمل، عدد من التجمعات العربية الإقليمية يحرز إنجازات متفاوتة من التوحيد وكسر الجدر الفاصلة، ووحدة بين شطري اليمن، ولكن الأهم من ذلك كله أن المئات الثلاثة من ملايين العرب لم يشعروا بوجودهم كأمة كما يشعرون اليوم، وأكثريتهم تشاهد نشرة أخبار واحدة، وتقرأ الصحف نفسها، وتزور مواقع الإنترنت نفسها، ومثقفوهم يناقشون الكتب نفسها وتوحد وعيهم الجمعي القضايا الفكرية نفسها، وعلى نحو من الأنحاء، ربما، يعاني أغلب العرب من ضيق أفق الدولة القُطرية نفسها، كذلك.
بشير موسى نافع