خواطر
قبل فترة من الزمن سألت صديقا أثق به وبمتابعته للأحداث وتحليله لها، سألته عما يجري في ليبيا، وكيف يمكن فهمه والتمييز بين فريق وفريق، وما إلى ذلك مما يعتبر من ضرورات الوعي السياسي بالحدث، لا سيما لمن يمارس عملا إعلاميا، قال: لا يمكن!
قلت له، قد يسري هذا عليّ، أما أنت فمن ليبيا، بل من قلب العمل الليبي أيام كان بالغ الصعوبة والخطورة عند التحرك ضد استبداد القذافي، ولطالما كنت تشرح لي ما يجري، فاشرح لي ما يجري الآن.
قال: دعنا أولا من التدخلات الخارجية وتأثيرها، في متابعة الداخل الليبي لم أعد أرى فريقا أستطيع الاعتماد على ما يقول ويفعل، والثقة بأنه يخدم المصلحة العامة بالفعل.
ثم ذكر بعض التفاصيل مما شمل الأسماء ومواقع المسؤولية، وتحدث لفترة من الزمن كما كان يتحدث في الماضي لتحديد من يصنع الحدث أو يحرك مرجله، ثم تعليل ما يفعل، وما قد يعقده من تحالفات متينة أو هشة؛ ولكن كان الوقت يمضي وأنا -رغم إيضاحاته- ما زلت كما كنت من حيث عدم القدرة على فهم ما يجري.
كان من بين ما استوقفني أثناء الحديث ما ذكّرني ببعض ما يعنيه فريق من الناقدين عندما يطلقون وصف التنظير دون جدوى، على فريق ممن يحللون الأحداث سياسيا، فنحن نستنجد أحيانا بحديث الفكر والمبادئ والمثل، ويظهر أننا نغطّي بذلك على ضعف إدراكنا لما يجري في الواقع المشهود، ثم لا نصل إلى أعماق الحدث بالفعل.
ولكن توجد جوانب تتطلب موقفا قاطعا وفق ما ثبت من مبادئ ومثل وأهداف، وإن كان لا يكفي وحده؛ مثلا: لا يكفي في متابعة الحدث الليبي الاكتفاء بالإدانة الواجبة لطريق الانقلابيين والإشادة بطريق من يواجههم؛ هذه مقولة تسري على ليبيا مثلما تسري على الانقلابيين في بلدان أخرى، إنما يجب علينا أن نرى أيضا البعد السياسي الموجود “خارج” نطاق السلوك الانقلابي؛ وهنا يتوجب نقد بعض الرؤى السياسية بإنصاف.
إن المشكلة في ليبيا أن من يواجه الانقلابيين -وهذا واجب- لا يطرح صورة واضحة المعالم لما يريد وما يمارس، ومع من يتعامل من القوى الإقليمية والدولية خارج حدود ليبيا، فضلا عن تعامله مع مسارات القوى الثورية أو ما بقي منها في البلاد.
يوجد ما يستدعي الإدانة دون تردد، مثل اعتماد القوة العسكرية لبلوغ أهداف ما، سياسية قويمة كانت، أم لا، وإدانة ما يصدر بوضوح عن مطامع ذاتية أو عن الارتباط بالتبعية لجهات أجنبية.
ولكن علاوة على ذلك يبقى أن ما تحتاج ليبيا إليه، ومعها الصادقون في الخشية على مستقبلها ومستقبل شعبها، هو ظهور ما ينشر الطمأنينة من حيث سلامته وواقعيته معا، ليستحق الإشادة والتأييد والدعم عموما.
إن استمرار الغموض يمكن أن يسبب تصعيد الضغوط على أهل ليبيا وغليانَ الغضب إلى درجة الانفجار، وهذا ما يكمن وراء التحرك الشعبي المفاجئ في طبرق وطرابلس في مطلع تموز / يوليو ٢٠٢٢م، فكأنما استأنف الحدث الثوري الشعبي من عام ٢٠١١م مساره مجددا، ولكن سرعان ما توارى عن صدارة المشهد، فبدا أنه أمكن التعامل معه بأسلوب امتصاص الغضب دون إحداث تغيير حقيقي، ودون الاستجابة للمطالب الشعبية.
وسبق أن تكرر الاحتجاج الشعبي بقوة في أعوام ماضية، ولكن غالبا ما كان إما في شرق البلاد أو غربها، وقليلا ما اتضحت الصورة آنذاك حول من يقف وراءه، أما في الموجة الثورية الشعبية الأخيرة، فقد توضح ما سبق أن طرحته المسارات الشعبية في لبنان أيضا: “كلهم يعني كلَّهم”، فهل يدرك “الكل” السياسي الليبي أنه أفلس من حيث الرؤية والمبادرة والسلوك سياسيا؟ هل يدرك أنه انتهى ما عنده، سواء تحرك مباشرة ضد الإرادة الشعبية الثورية، أم تحرك رافعا راية الدفاع عنها؟
وإلى حلقة قادمة من سلسلة أحداث وخواطر أستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب