خواطر – على هامش مفهوم العقلانية

هذا موضوع قديم جديد، محوره معارك "دونكيشوتية" تتجدد في أوج التحرك الهمجي المضاد للثورات التغييرية الشعبية، والذي استهدف إرادة الشعوب الثائرة، التي فجّرها المحرك العقدي الحضاري الكامن في الإرث المعرفي الذاتي، وهو محرك يرفض الاستبداد والاستغلال والفساد والهيمنة الأجنبية، وينطلق من روحه الإسلامية رغم الحرب الضارية عليها منذ قرون بما شمل تصنيع انحرافات مدعومة خارجيا، لتكون ذريعة للهمجية المضادة.

كان يرجى أن يدرك أهل بلادنا عموما أن هذا وحده كاف لبيان أن الأخطار تستهدف الجميع دون تمييز بين يمينهم ويسارهم، وبين عقائدهم وتصوراتهم، وبين انتماءاتهم وتوجهاتهم، وبدلا من ذلك غلب على المشهد تشبث المتطرفين من مختلف التوجهات بتطرفهم، كما تجدّد نشر مزاعم ترى أن المخرج من الفوضى الهدامة المنتشرة هو الانسلاخ من جوهر ما صَنَعَنا حضاريا وثقافيا ومعرفيا في مسار تاريخ البشرية، وممّا يؤسف له أن يوجد بعض من يشاركون في ذلك جزئيا مع تأويل خاطئ لمقولة "الانحناء.. حتى تمرّ العاصفة".. ولن تكون النهاية بمرورها، فهي واحدة من سلسلة عواصف قبلها وبعدها.

 

في هذه الأجواء من مرحلة نعاني ويلاتها على طريق التغيير الحتمي وإن طال، وجد كاتب هذه السطور أثناء مراجعة بعض ما نشر في إصدارات سابقة من مداد القلم لنشر ما يصلح للنشر في هذه الإصدارة.. وجد مقالتين إحداهما نص بيان يعلن عن تأسيس "رابطة العقلانيين العرب" والثانية بعنوان "رد على العقلانويين"، وفي الفقرات التالية مقتطفات منهما، لا يتبدل المغزى فيها على خلفية استمرار "المعارك الدونكيشوتية" رغم جميع ما شهدته السنوات العشرة الماضية من أحداث، وكان التأسيس الرسمي للرابطة في باريس في مثل هذه الأيام، بين ٢٤ و٢٧/ ١١/ ٢٠٠٧م، قبل تلك السنوات العشرة، علما بأن الرابطة لم تتمكن من الانتشار فبقيت -وفق موقع (أوان) الذي احتضنها وتأسس قبلها بشهور- حبرا غريبا عن الدماء المراقة على أرض الواقع.

 

كان من وراء تمويل الرابطة والموقع رجل أعمال ليبي الجنسية، وكان يعمل مستشارا لسيف الإسلام القذافي قبل الثورة الشعبية الليبية، وشارك في التأسيس جلال صادق العظم وجورج طرابيشي وعزيز العظمة ورجاء بن سلامة وآخرون، وجميعهم ممن يركزون فكرهم "النقدي" على "الإسلام والإسلاميين".

وجاء في البيان التأسيسي للرابطة أنها (تمثل العقلانية التي تقول بها "رابطة العقلانيين العرب" مطلباً مركزياً من مطالب الحداثة التي تقوم، في جملة الأسس التي تقوم عليها، على العلمانية والمجتمع المدني ودولة القانون وحقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والمدنية. وتولي "رابطة العقلانيين العرب" من هذا المنظور العقلاني أهمية خاصة للعلمانية التي لا يمكن أن تختزل إلى ثنائية الإيمان والإلحاد).

 

أين رصانة الواقعي واستقامة المنهجي وحصافة المثقف وعقل الحداثي وفلسفة التنويري فيمن يرفضون الإسلام نفسه جملة وتفصيلا -إلا ما يريدون تفصيله هم على مقاس حشره في زاوية من زوايا المعابد وركن من أركان البيوت، بل يزيدون على ذلك فيزعمون لأنفسهم، حقّ الجلوس على كرسي القضاء، وحق احتلال موضع المصدر لتوزيع الأحكام: هذا مسلم وهذا ظلامي، هذا إسلامي وذاك "إسلاموي"، هذا يخدم أمته، وهذا يضرّ بها، وليس هذا من شأنهم، ولا قيمة له لمجرّد صدوره عنهم.

 

هذه صورة كاريكاتورية مضحكة مبكية، لكنّها تعبر عن مدى انفصامهم عن أمتهم ومجتمعاتهم وواقع ما صنعوه هم فيها، وما جلبوه عليها من كوارث ونكبات، بل فقدوا صلة الوصل مع الحقيقة الفلسفية والمنطقية لِما كانوا يزعمون الدعوة إليه، من عقلانية وواقعية ومنهجية وثقافة وحداثة وتنوير.

هل يحق لهم تنشيط دعواتهم هذه الأيام أيضا؟

– هذه ثقافة انحلال لا عقلاني، ويبرأ منها ومنهم أفلاطون وأرسطو على السواء..

– هذه تربية الطاعة العمياء للحاكم الملهم، ويبرأ منها ومنهم فيلسوف التربية الفرنسي روسّو صاحب كتاب "إيميل" ومؤلّف "العقد الاجتماعي"..

– هذا إعلام الصوت الواحد مع السوط الواحد، يبرأ منه ومنهم فولتيير صاحب الكلمة المشهورة "لا أوافقك على رأيك ولكن أضحي بنفسي من أجل أن تعبّر عن رأيك"..

– هذا فكر سجن نفسه في برج عاجي، تبرأ منه الأخشاب ويبرأ من نزلائه صاحب الفلسفة التوليدية مع الجماهير في شوارع أثينا سقراط..

– هذا فن بلغ من الانحطاط قدرا لا انحطاط بعده، يبرأ منه ومنهم فيلسوف المتعة أبيقور في قبره..

– هذا "أدب" جعل الشذوذ في التعبير والمضمون نهجا متبعا، لو قرأه تولستوي وهوجو وشكسبير لكسّروا أقلامهم اشمئزازا وفزعا..

– هذه سياسات اقتصاد ومال وممارسات جعلت الاستيراد تقدما والفقر صنعة متقنة، يبرأ من أهلهما كارل ماركس وآدم سميث معا..

– هذه سياسة قيعان المنحدرات من قبل نكبات فلسطين إلى ما بعد نكبات العراق وسورية وأخواتهما..

ويقولون: إنهم تريدون إنشاء (مجتمع بديل متحرّر من تديين السياسة وتسييس الدّين، ومنعتق من العموميات الإيديولوجية اللاعقلانية التي تذيب القضايا جميعها في شعارات دينية عامة مثل "الدولة الإسلامية"، و"المجتمع المسلم" و"الاقتصاد المسلم"، وهي كلها على مبعدة شاسعة من روح العصر وأفكاره وقيمه).

كيف؟..

هل كان كل ما كان في العقود الماضية إلا في ظلّ تغييب ذلك كله لحساب شعاراتهم المفروضة وتطبيقاتها، أم أصبحت قضية النهوض ملهاة من الملاهي المسرحية؟

 

كلامهم كلام مَن لم يدرس تاريخ الحداثة الأوروبية أو درس ويتجاهل، فما نشأت الحداثة إلا بعد أن تحرّك قطار التنوير، وما انبثقت عنه بل انحرفت به، فبدأت العلمانية قبلها على طريق بدأه رجل الكنيسة توما الأكويني وصيّرتها الحداثة علمانية ملحدة، ودعا روسو إلى "العقد الاجتماعي" وتخلّت فرنسا عن منهجه التربيوي ومالت إلى العلمانية المتطرفة عام ١٩٠٨م، وسادت دولة القانون الأوروبي في أوروبا وأرادوا هم أن تسود في بلادنا دولة القانون المستورد بأسلوب استبدادي، فتلاشت دولة القانون وبقي الاستبداد فقط، ونشأت المواطنة بكل وجوهها نشأة طبيعية في كل قطر أوروبي دون أن تحطّم -عند نشأتها- الإنسان الأوروبي وإرثه المعرفي الذاتي بل كانت مع بذل أقصى الجهود لربطه بجذوره الإغريقية والرومانية المندثرة وحتى الكنسية الباقية إلى اليوم، وصنعوا هم نقيض ما صنعه التنويريون الأوروبيون بمائة وثمانين درجة، لاقتلاع الإنسان في بلده مسلما بانتمائه العقدي أو انتمائه الحضاري، ليلبسوه ثوب تنوير مزيّف لا يتطابق مع أصوله الأولى، مستبدّ لا يمكن فرضه بالانقلابات والطوارئ، ليس في عالم السياسة والاقتصاد فقط، بل في عوالم الفكر والثقافة والأدب والفن أيضا التي سيطروا عليها واحتكروا مقاليد فرض القرار من خلالها. 

 

أبى المواطن مسيرتكم.. فحاولتم بالقوّة والسيطرة الهمجية صناعة مواطن على مقاسكم.. فأخفقتم.. وتحاولون تحميل مسؤولية الإخفاق لمن حاربتم.. فهل يوجد من ينطبق عليه وصف "العقلانويون" أكثر منكم؟

إن شعوبنا وبلادنا على حافة الهاوية وإن عالمنا يواجه أخطارا كبرى، ونتمنّى عليهم أن يكونوا عقلانيين حقا، لا عقلانويين كلاما وواقعا، ولو رجعوا ببضاعتهم إلى فيلسوف العقل التنويري ليسوّغ عقلانيتهم، لتبرأ منها ومنهم.

نبيل شبيب