خاطرة – موقف ثوري وسياسي مهلهل

أصبح المشهد الثوري ضحية من ضحايا قصورنا عن استيعابه استيعابا مشتركا، ومن دون هذا الاستيعاب يستحيل التأثير الجماعي للعمل في الاتجاه الصحيح.. وكيف لنا ذلك ما دام كل طرف منا ينظر إلى الساحة من زاوية واحدة، أو دائرة ضيقة، فيعمم ما يراه فيها على ما لا يراه في سواها، ويدين قديم "سايكس بيكو" وجديدها وهو يصنع مثلها في "النسيج الثوري" نفسه وليس في النسيج الوطني فحسب.. ولهذا أصبح أقصى ما يصل إليه هو تكرار طرح "عناوين" حفظناها عن ظهر قلب، في مقدمتها توحيد القوى الثورية، وإصلاح السياسيين لأنفسهم.. وتبقى العناوين عناوين، لا تمثل مشاريع ولا حلولا، وأنى لنا هذا ما دام كل منا قابعا في زاويته ودائرته، يعض بالنواجذ على رؤيته الموضعية الذاتية!

. . .

إن المشهد الثوري في سورية مشاهد متكاملة كلوحة الفسيفساء، وإن كانت متعددة تؤكد -أو توهم- بأن الثورة الشعبية أصبحت ثورات، ولن نرى لوحة المشهد بمجموعها.. إلا عبر حصيلة ما تراه "أعيننا" -كل على حدة- وزوايا النظر المتعددة.

القسط الشعبي من المشهد هو الأصل.. وهو صانع الثورة، وقد أصبح في "أعيننا" هزيلا محاصرا، ومستهدفا ضامرا، إذ لا نعود إليه ولا نستعيد الثورة التي انطلقت منه، إلا في ميادين الرثاء وربما بعض المشاركة في الإغاثة.

كذلك لا تتجاوز دعوات توحيد الصفوف غالبا حدود سعي كل طرف إلى بيان أنه "هو" الطرف الأصدق ثوريا، فهو مستعد وغيره يعرقل، أما على أرض الواقع فلم نصل إلى تأجيل التشبث برؤى ذاتية وانفرادية عقيمة، فنأبى التخلي عن بعض شروطنا تجاه بعضنا بالمقارنة مع ما وصل إليه تسليم الزمام على مذبح الحاجة لمن يمنح ويشترط ويقيّد!

إن المشهد الثوري هو مربط الفرس في مسار الثورة، وكل ما عداه، بما في ذلك التحرك الدولي، يتأثر به بقدر ما يكتسب مشهدنا الثوري الذاتي أسسا قويمة ثابتة ومعالم مرئية على أرض الواقع بمضمونها وآثارها.

. . .

نحن المسؤولون عن أن أنظارنا لا تتسمر على "ثورة شعبنا" بل على "التحرك الدولي" لتقويضها.. وهو تحرك يصنعه عداء أصيل لإرادة الشعوب، لديه إمكانات ضخمة، ولكن قسطا كبيرا من أفاعيله وحصيلتها راجع إلى تغييب إعطاء الأولوية لأداء واجبنا في صناعة المشهد الثوري بأنفسنا، وبقدر ما ضعف حجم أداء هذا الواجب، بلغ التحرك الدولي من العنف والضراوة ما يوحي -أو يوهم- أنه هو وحده المسيطر، كما بلغ من التعقيد ما يوحي –أو يوهم- باستحالة التأثير عليه.

ولكن ما معنى المشهد الثوري "الواحد"؟

المشهد الثوري واحد زمنيا يمتد من أولى مظاهر "رفض" استبداد انقلابي حتى هذه اللحظة وإلى يوم النصر الأول باقتلاع جذور الاستبداد.. فما أشد عقم جدل يتجدد حول إبراز مرحلة زمنية على حساب أخرى أو التهوين من شأنها.. وعقم الجدل للفصل بين "مرحلة" الثورة الشعبية حاليا، وما كان أيام المظاهرات السلمية الأولى، أو محطات النجاح والتعثر في المسار المسلح، أو عن عطاءات الفكر والإعلام، بضعفها وقوتها.

والمشهد الثوري واحد في "اللحظة التاريخية الآنية" من مسار الثورة، فلا تنفصل ملحمة حلب عن ملحمة درعا الأولى، أو ما شهدته حماة وحمص، أو دير الزور والغوطة.. ولا يفيد الكلام في عالم افتراضي حول التحرك في الشمال بدعم خارجي تركي بمعزل عن إرهاصات تحرك مأمول في الجنوب رغم تغوّل خارجي متعدد العواصم.

. . .

وحدة المشهد تنطبق على التحرك الدولي أيضا وإن تعددت من ورائه محركات لغة المصالح والمطامع ولغة الهيمنة والعدوان، مع لغة الدعم والغوث، فجميع ذلك يتطلب تحركا ثوريا وسياسيا ذاتيا فعالا متكاملا، رغم مسلسلات الترهيب والتشريد عبر القصف بأسلحة محرمة وغازات وسموم، ومسلسلات التيئيس والتثبيط عبر استعراض مدى الاستهتار الدولي بالإنسان وتمرير جميع الجرائم دون عقاب تارة بذريعة "الفيتو"، وتارة أخرى بالصمت المتعمد كما جرى ويجري إزاء قصف النازحين، وإزاء عمليات التدنيس "التي يسمونها عمليات تطهير" بتمليك المحتلين الغاصبين الأحياء والقرى "المطهرة" من الأهل المدنيين الأصليين.

إن المحور الأساسي لوحدة المشهد في التحرك الدولي هو ما يقول به لسان حال ما يسمى المجتمع الدولي:

مهما حدث لكم بفعل عدواننا المباشر أو بفعل بقايا نظام التسلّط بدعمنا المباشر وغير المباشر، فلن نأبه بكم.. حتى تكفوا عن التحرك الثوري.. عن ثورة التغيير الشعبية التاريخية.. عن طلب الحرية والكرامة والعدالة والأمن!

أين الجواب؟

. . .

المشكلة هي أننا نعطي باسم الثورة ألف جواب وجواب، والمشهد يحتاج إلى جواب واحد موحد.

كل من يتشبث بجميع ما لديه على حساب تقاربه مع سواه كي يولد الجواب الموحد، هو -مهما أخلص- شريك واقعي في تأخير النصر.

وعبارة "تأخير النصر" أصبحت للأسف مستساغة، إذ تستخدم غالبا للتبرير ولتخفيف وطأة ما نصنع، أي تستخدم بمعنى أن النصر قادم وإن تأخر، والواقع أنها تعني استمرار سقوط الضحايا، واستمرار المعاناة، واستمرار تمكين العداء الخارجي من تحقيق مآربه، واستمرار تراكم الآثام حتى يأتي الله بقوم يتورعون عن تحمل إثم أي ضحية وأي درجة من درجات المعاناة، ولا يتدافعون المسؤولية عن ذلك، ولا يستهينون بأن يتأخر النصر المرجو ولو للحظة واحدة.

نبيل شبيب