ما بين حمزة الخطيب أيقونة درعا، وإيلان أيقونة التشريد، وعمران أيقونة حلب، ما لا يحصى من أيقونات عالم الطفولة في الثورة الشعبية في سورية التي اندلعت لصناعة غد جديد لأولادنا وأحفادنا، لا يكون كالحقبة المقيتة التي مرت بنا وبآبائنا وأجدادنا.
ومن المؤلم أن من ارتقى بالشهادة إلى أعلى عليين من أطفالنا أو ارتقى بالمعاناة ألما وتشريدا، لا نرتقي نحن به إلى مستوى ما تعارف الناس على وصفه بالأيقونة، إلا عندما يترك مثل هذا الأثر في العالم الذي نشكو من تواطؤ المجرمين من زعمائه على شعوبنا وقضايانا. بل حتى بعد انتشار وصف الأيقونة لبعض فلذات أكبادنا، نكاد نوظف ذلك من أجل أنفسنا، كل في الزاوية التي يقف فيها وليس في ثغر يقف عليه.. فلم يصبح تحركنا على المستوى الذي يقتضيه هذا العرف البشري من تحرك إنساني وسياسي وإعلامي وفكري على مستوى عالمي، سواء في تعاملنا مع أطفالنا أو تعاملنا مع نسائنا أو شبابنا، ممن سجل ويسجل ما لم يعرفه التاريخ من قبل من التضحيات والبطولات والصمود والعطاء.
لم نتعامل في المحافل الإنسانية العالمية مع ثورتنا -وهي أيقونة التاريخ البشري- كما ينبغي على مستوى التحرك الإنساني توثيقا وتواصلا بمنظمات وهيئات ذات تأثير، لأن كثيرا ممن يبذل في هذا المجال جهدا مشكورا لا يجد دعما مشكورا ولا غير مشكور، ولأننا لا نزال "أطفالا" على هذا الصعيد، أو أن غالبيتنا كذلك ممن يتحركون بدوافع إنسانية وأنشطة إنسانية.
لم يتعامل الحقوقيون في ثورتنا مع هذه القضايا وأمثالها كما ينبغي، توثيقا وتواصلا وتحركا في المحافل التخصصية الدولية، لأن كثيرا من المتخصصين من بيننا آثروا ما يعتبرونه عملا سياسيا أو إعلاميا أو تنظيميا انتمائيا ضيقا، على التحرك الحقوقي المفروض عليهم فرضا بحكم تخصصهم وكفاءاتهم وقدراتهم وعلاقاتهم، فأصبحوا في عالم السياسة أطفالا بدلا من أن يرتقوا إلى مستوى العمالقة في الميدان الحقوقي.
لم يتعامل السياسيون أو من حمل هذا الوصف من أهلنا باسم شعبنا وثورتنا، مع أيقونات شعبنا وثورتنا ولا مع مفاصل عقدتها السياسية كما ينبغي أن يكون التعامل السياسي في عالمنا وعصرنا، لأنهم آثروا التعامل بمنطق المحاصصة والمناصب والمؤتمرات الاحتفالية أو الحافلة بالنزاعات العلنية، ومع المفاوضات بمفعول عقدة النقص -إلا نادرا- فبقوا أطفالا في عالم السياسة.
لم نتعامل أو يتعامل المناضلون بالقلم الإعلامي والفكري والأدبي باسم ثورتنا أو من المواكبين لثورتنا، مع مثل هذا القضايا المفصلية في مسار الثورات والتطورات في حياة البشر، تعاملا مشابها لما كان أيام إنهاء حرب فيتنام مثلا، أي قبل أن تضع الثورات التقنية والإلكترونية ما وضعته في أيدينا من وسائل حديثة فعالة، لأننا آثرنا أن ننشغل في إعلامنا بفقه المتغلب وفقه النوازل، أو جدل العلمانية والحداثة، أو تقديس رايات بعض أهلنا وتدنيس رايات بعضهم الآخر، فبقينا في عالم الإعلام الحقيقي أطفالا بعد أن أصبح أطفال شعبنا وثورتنا أبطالا يبكي الإعلاميون خارج حدودنا بسبب بعض ما يصل إليهم من مشاهد مؤثرة وأرقام معبرة.
. . .
حمزة.. وإيلان.. وعمران.. وأقرانهم من الصغار والكبار لا يقدمون أنفسهم لنا ليكونوا "قرابين" نصنع منها أوتارا نعزف عليها ألحان الشكوى من عالم "همجي" نوجه إليه سهام أضلاعنا الممزقة غضبا وألما، بل يضعون بين أيدينا خارطة قصورنا نحن، عن أن نرتفع إلى مستوى أولئك الأطفال الذين ولدوا في رحم ثورة تاريخية صامدة كاشفة، وإلى مستوى من يقدم الغالي والرخيص على الجبهات ليصد عن صدورنا وبيوتنا وقرانا وحقولنا ولو القليل.. القليل.. من قذائف الإجرام المحلي والإقليمي والدولي سنة بعد سنة ويوما بعد يوم.. فتمضي السنون والأيام، وتشهد ارتقاء أيقونة بعد أخرى من فوق رؤوسنا المنخفضة، بين الحين والحين، ونحن ما نزال نتساءل أفرادا ما الذي ينبغي أن يصنع الفرد منا؟ ونتساءل جماعات كيف نحافظ على البقية الباقية من وجود جماعاتنا؟ ونتساءل نخبا علام نكتب أو نقول ما لا يفهمه شعبنا ولا البشرية من حولنا؟ ونتساءل ثوارا عن غياب الرؤية والتخطيط ووحدة الهدف وتراصّ الصفوف؟
الثورة، ومسار الثورة، وصمود الثورة، ومعجزات الثورة، يصنعها أطفالنا من أيقونات الثورة، من المعروفين لنا وغير المعروفين، ويصنعها أبطال على استعداد لخوض معركة الفئة القليلة ضد الكثرة الكاثرة.. إنما لا نصنعها "نحن" الذين نتكلم عن الثورة وأيقوناتها وعن الثوار وأخطائهم وعن أشد الزعماء رعونة وشيطنة في العالم المعاصر وهمجيته المادية.
نحن إلا من رحم ربي من تسابقنا إلى عقد المؤتمرات ونسج التوافقات السريعة خارج ميادين الثورة عندما اندلعت فتوهمنا أن "هدفنا" بات قاب قوسين أو أدنى فعلينا القفز إلى مقاعد السلطة، قبل أن يقفز إليها سوانا، بزعم أن بعضنا مخلص لبلدنا وأهلنا أكثر من بعضنا الآخر.
نحن إلا من رحم ربي من كان أصحاب الثروات من شعبنا على استعداد لتوظيف قدراتهم في شراء الولاءات باسم الدعم والإغاثة حتى أصبحت المعاناة أكبر منهم فعادوا إلى ما كانوا عليه قبل الثورة تاركين إلا قليلا منهم ميادين الدعم المطلوب لصمودها وتمكينها لتصبح مادة مساومات ومزايدات في "ساحات حرب التمويل واستغلال المعاناة"..
نحن إلا من رحم ربي من افترقت بأقلامنا وقرائحنا السبل المتشعبة عن الثورة عندما وجدنا أننا لا نملك منها سوى "المراقبة" عن بعد وانتهاز الفرص السانحة ليقدم بعضنا نفسه أنه هو الثورة دون بعضنا الآخر.
خبراؤنا العمالقة لم يضعوا خبراتهم في خدمة الثورة وشعبها بل وجدوها ساحة تنسكب فيها دماء أهلنا ليكونوا "خبراءها"..
نحن إلا من رحم ربي من تعالى علينا صناديد نخبنا فلم يضعوا عطاءهم في خدمة الثورة وشعبها بل وجدوا الثورة ميدانا للتنافس في تمجيد الذات والتنديد بالآخر..
نحن إلا من رحم ربي.. نحن.. علماؤنا ودعاتنا ومفكرونا والمتخصصون والإعلاميون والسياسيون والمخططون في صفوفنا، ومضت جماعاتنا وأحزابنا التليدة العتيدة والجديدة الوليدة.. نحن من "كنا عايشين" قبل الثورة، وقد نعود إلى ما كنا عليه بعد "انتصار" سوانا في الثورة.
نحن إلا من رحم ربي ممن نعتبر أنفسنا من عامة الشعب من نتابع كل مثير يصلح للندب فنندب، أو يصلح للبلاغة فننشد، أو يتطلب تكرار القراءة وعمق الفهم والتفكير فنعزف ولا نستحيي من أن نردد أن عالمنا وعصرنا ألغى وصفنا بأمة "اقرأ" فعلام يكتب الكتاب ما يتجاوز عبارة وعبارتين وسطرا وسطرين وتغريدة أو تغريدتين!
نحن المسؤولون عن كل ما نحن فيه، بعجره وبجره، وبالعجز عن التفاعل الإنساني الرفيع مع من يصنع لنا أيقونات وبطولات ومعجزات.. ثم من بعد ذلك كله نتقن إذا أتقنا صياغة المراثي لحمزة وإيلان وعمران.. ولا نتقن صياغة مرثاة واحدة لأنفسنا، وسيرثينا بما نستحق أطفالنا وأحفادنا من بعدنا.
نبيل شبيب