في سورية.. وسورية مثال على سواها.. نحترق مع كل دمعة طفل تفرض فرضا مواصلة العمل لمتابعة مسار الثورة حتى النصر.. فلا نحرقنّ دموع الأطفال ونحرق الأطفال بكلمة تخاذل أو تراجع أو إحباط ولا بقعود عن عمل نستطيع أداءه، مهما كان في نظر بعضنا صغيرا محدود الأثر. الله أعلم بما سيقول أولئك الأطفال عنك وعني وعن أمثالنا عندما يصبحون في مثل أعمارنا، أو يقولون بين يدي ربنا إذا لقوه قبل أن يكبروا، كمن سبقهم من الأطفال الشهداء.
إن الجيل الذي فجر الثورة من أعمق أعماق المعاناة لعدة عقود في المعتقل الأسدي الإجرامي المظلم، قادر على الوصول بها إلى النصر بعون الله بعد أن زلزلت الثورة أقدام الطغاة وحلفاءهم وأعوانهم ممن يعملون علنا وفي الخفاء.
ألا إن الإحباط شر هزيمة.. وإن الثبات والمتابعة لمن يقبضون على الجمر بأيديهم هو الانتصار، ولا يملك من يعجز عن مواكبتهم داخل الميدان، إلا أن ينظر إليهم نظرة الإجلال والاعتزاز، وأن يبذل عن بعد ما يستطيع لدعمهم.. وليس لنشر الإحباط طعنا في الظهور.
. . .
إن مسار الثورة يضم جميع أصناف البشر، فمن كان صادقا مخلصا يحس بالغيرة على مستقبل بلده وأهله والإنسان، يعمل لزيادة صنف الصادقين المخلصين العاملين، ولا يبقى خارج قوسين فيساهم في تخفيض نسبتهم وقدراتهم وفي تأخير انتصارهم.. وبفضل الثورة ارتفعت أصوات ونشطت أقلام كانت مكتومة أو غائبة لعشرات السنين، فما أسوأ أن تنقلب على عقبيها وتجحد فضل الثورة علينا،فتنشر اليأس والإحباط والشتائم والتخوين، ولهؤلاء لا يفيد أن يقال: اصمتوا من جديد، ولكن نقول مع استبقاء الأمل فيهم: استعيدوا أنفسكم وتحرروا من أخطبوط اليأس والاستبداد من جديد.
إنما يرى “الدمار فقط” من اعتاد أن يحني رأسه نحو الركام تحت قدميه، فيثبت لنفسه صحة رؤيته، ويسعى لتعميمها ليحتج بسواه على ما يراه لنفسه، أما من يتطلع إلى”المستقبل” فيرفع رأسه إلى العلياء التي ارتقى الشهداء إليها، ليرى من وراء العقبات الساعين من أجل تلاقي الجهود على عمل أفضل، يوصل إلى الأهداف الجليلة فيشارك في إزاحة الركام وتعبيد الطريق إلى المستقبل.
أما المستغلون والمتسلقون والمنحرفون فمن أسوأ المواقف للتعامل معهم اتخاذهم ذريعة لانقطاع أي فرد عن درب الثورة، إذ يفسح لهم مكانه، وهو يتفرج منزعجا.
كل منا مسؤول عن نفسه أولا، ماذا يصنع، وعن موقعه هل يشغله أم يدعه شاغرا لسواه.
. . .
هذه ثورة شعبية صنعت نفسها وإنجازاتها من لا شيء في بداية مسارها فلا غرابة إن تعثرت، ولا غنى عن التفاؤل لتتابع الطريق نحو هدفها، ولا يفيد التفاؤل دون أسبابه الموضوعية لتحقيق ما ينبغي تحقيقه من تغيير جذري كبير.
لقد تأخر النصر بقدر ما تأخر الانطلاق من هذه المعادلة وتطبيقها، وفي الآونة الأخيرة فقط بدأ يتردد ذكرها في ثنايا كلمات عدد كبير من السوريين الذين أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي متنفسا لهم.
النصر قادم بإذن الله نحو هدف التغيير والتمكين.. ولا نزال نمضي نحوه، فوق جسور الآلام والمعاناة والانكسارات، لنتحول من ثورات متوازية تصنع الفرقة إلى مسار مشترك لثورات متتابعة تصنع الإنجاز.
ومن علامات ذلك ما يبذل من جهود متنامية للوعي على بصيرة، ومن بوادر مراجعات متنوعة لما مضى، ومن محاولات جادة للتلاقي على قواسم مشتركة، أقرب إلى جمع الصفوف من رؤى مستقبلية، من الطبيعي أن نختلف على تفاصيلها المتباينة رغم وحدة المنطلق، وقد كان ولا يزال:
التحرر من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية.. في وقت واحد.
. . .
أكثرنا ينطلق من ثقته بالله عز وجل عندما يؤكد ثقته بانتصار الثورة، ولكن آن الأوان لمزيد من الوعي بأن الثقة العقدية بالله مرتبطة بالأخذ بالأسباب، أي بحجم ما يصنعه البشر أو لا يصنعونه من أسباب مادية ومعطيات ملموسة لبلوغ أهدافهم على أرض الواقع. تلك سنة ربانية للحياة الدنيا، وتزداد أهمية الأخذ بها عند التطلع إلى أهداف جليلة كبيرة، من قبيل التغيير الجذري الشامل، الذي يولد عبر تحرر إرادة الشعب وتحرر الوطن تحررا ناجزا.
ولنتساءل: لو سقطت بقايا النظام الأسدي هذا اليوم، كيف سيكون مستوى نهوضنا بأعباء التغيير الذي اندلعت الثورة الشعبية من أجل تحقيقه؟
إن لم يتحقق أثناء الثورة ارتفاعنا إلى المستوى الرفيع الفعال المثمر للتعامل والتكامل بين الثوار من مسلحين وغير مسلحين ومن السياسيين والمفكرين والمخططين والعلماء والمتخصصين والكتاب والإعلاميين والممولين والداعمين والعاملين في القطعات المدنية المعيية.. إن لم يتحقق ذلك فكيف سيكون حالنا لحظة مواجهة المسؤولية للنهوض بأعباء ذلك التغيير الجذري الجليل، الذي قدم الشعب الثائر من أجل تحقيقه الكثير وما يزال يقدم.. ويعلم الله إنها أعباء أكبر من الثورة نفسها.
لا يقولن قائل إنها المؤامرة الكونية ضد شعب سورية الثائر.. وكفى.
نعم.. هي كذلك، ولهذا فإن المستوى الرفيع المطلوب هو ما يجمع بين القدرة على إسقاط بقايا النظام والأهلية لمواجهة تلك المؤامرة في وقت واحد.. فلنرتفع أفرادا وتجمعات إلى هذا المستوى، وسنجد أن بقايا النظام مهترئة منذ فترة بعيدة، ونكاد نمنع سقوطها نحن ببطء تغيير أنفسنا.. أو نساهم على الأقل في ذلك مع الأعداء المكشوفين و”الأصدقاء اللدودين” على السواء.
النقص كبير.. والثغرات عديدة، إنما لا يقولنّ أحدنا: “هذه ثغرة كبيرة وخطيرة في مسار الثورة، لم ينهض أحد لسدها..“ فليكن القائل أول الناهضين، وإن لم يقدر فليعمل للنهوض بنفسه وتطوير إمكاناته، فإن لم تكف فليستعن بسواه، وليعلم أن المطلوب بذل غاية الجهد.
ألم نعلم أن الصبر لا يغني في “الرباط” عن المصابرة؟
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}
وكلمة “لعلّكم” في كلام الخالق تعني: ستفلحون.
نسأل الله الفلاح والنصر.
نبيل شبيب