سيان هل نسمّي الحركة التي أوصلت يوم 23/7/1952م مجموعة "الضباط الأحرار" ومن خلالها جمال عبد الناصر إلى السلطة في مصر انقلابا عسكريا أم ثورة، فقد جمع ما قام في مصر حتى وفاته يوم 28/9/1970م عددا من الخصائص بالمعنى الإيجابي والمعنى السلبي للكلمة:
١- القومية العربية على المستوى المصري والعربي
٢- عدم الانحياز والحياد الإيجابي على المستوى الدولي
٣- احتكار السلطة على المستوى الداخلي
وسيان هل يكون النظر إلى تلك الحقبة ونتائجها بمنظور إسلامي، أو قومي عربي، وبمنظور الناصريين الحريصين على إرث جمال عبد الناصر، أو منظور الإخوان المسلمين الأكثر تضررا من عهده، فإن الحصيلة التاريخية لتلك الحقبة، تشمل الكثير، وأهمه:
١- ما يرمز إلى الاستقلال كتأميم القنال وحرب 1956م.
٢- مناصرة حركات التحرر من الاستعمار التقليدي.
٣- التعامل مع قضية فلسطين كقضية محورية عربيا.
٤- الكارثة العسكرية والسياسية في حرب 1967م.
٥- البذور الأولى لمسيرة التسليم لاحقا بنتائج نكبة 1948م (لاءات الخرطوم من جهة ومن جهة أخرى شعار إلغاء آثار العدوان والاعتراف الرسمي بقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة وأولى وساطات التسوية).
٦- سلطة السادات وسلطة مبارك في اتجاه مناقض لسلطة جمال عبد الناصر فلسطينيا وعربيا، ولكن اعتمادا على ما ورثاه عنه من صلاحيات تسلطية شبه مطلقة.
التحرر من سلبيات الماضي
ما الذي يريده الناصريون وأنصارهم ويريده الناشطون تحت العنوان القومي العربي الآن؟
يمكن على ضوء المعطيات القائمة عربيا ودوليا استيعاب تحركهم من منطلقات "القومية العربية" و"عدم الانحياز" مع مراعاة تعديل ما ينبغي تعديله في أطروحاتهما، ولكن لا يمكن استيعاب أن يشمل ذلك القبول بإرث حقبة جمال عبد الناصر على صعيد "احتكار السلطة داخليا" فيما لو أمكن وصولهم إلى السلطة، أو ممارسة إقصاء الآخر في نطاق تنشيط الحركة الناصرية المصرية والعروبية، فالتحرك الواضح في اتجاه قبول الآخر، هوالخطوة الأولى الضرورية في اتجاه يميز الحركة الناصرية داخل مصر عن حقبة الوجه العسكري الشمولي.
يمكن استيعاب العودة إلى ما تقتضيه السيادة والاستقلال داخليا بمكافحة التبعية الأجنبية، ومناصرة حركات التحرير، والتعامل مع قضية فلسطين باعتبارها القضية المحورية عربيا، ولكن لا يمكن استيعاب الامتناع عن تحميل الإرث الناصري المسؤولية عن كارثة 1967م ومسيرة التسليم والتشبث بها عبر "كامب ديفيد"، فالإقرار بهذه المسؤولية هو الخطوة الأولى في اتجاه يميز الحركة الناصرية عربيا اليوم عن الجزء السلبي من حقبة جمال عبد الناصر بالأمس.
إن تجديد الاتجاه الناصري بعد جمال عبد الناصر، لا يمكن أن يكون سليما إذا حمل السلبيات مع الإيجابيات، أو تجاهل السلبيات في حمأة تمجيد الإيجابيات من خلال مقارنة ما يراد الآن مع ما ساد بعد جمال عبد الناصر من أوضاع أسوأ مما كان في عهده دون جدال.
الإشكالية في ذلك العهد لا تكمن في الدعوة إلى القومية العربية قدر ما تكمن في التطرف بها إلى درجة إلغاء الآخر، مصريا وعربيا وإسلاميا.. وهذا أول ما ينبغي أن يستدركه الناصريون على "الاسم" الذي ينتمون إليه، فبغض النظر عن نوايا جمال عبد الناصر نفسه، يبقى أن عهده كان من خلال ممارساته السياسية داخليا وخارجيا، هو المرحلة التاريخية التمهيدية لما كان من بعدها حتى يومنا الحاضر.
ومع رؤية ما هو قائم على الساحة الآن.. وليس قبل عقود في عهد جمال عبد الناصر، يمكن التأكيد أن الاتجاه القومي الذي فصل نفسه عن الاتجاه الإسلامي آنذاك، وحوّل الحديث عن "الدين" إلى حديث عن "القيم"، وحوّل مرجعيته في البلاد إلى مادة دستورية لا يُلتزم بمقتضاها و"ميثاق" يلتزم بمضامينه، مع كل ما انبثق عن ذلك على أرض الواقع من احتكار للسلطة، واستئصال الآخر، وممارسة الاستبداد، وبالتالي هدر الطاقات الذاتية الضخمة التي فجرها مصريا وعربيا يوم 23/7/1952م، فأوصل في النهاية إلى كارثة 5/6/1967م.. هذا الاتجاه لا يمكن التمسك به كما هو، بل يجب العودة به إلى اتجاه عروبي يلتحم التحاما حقيقيا بالاتجاه الإسلامي، وكل انفصام نكد بينهما يضعفهما معا، ويسبب العواقب للتحرر والنهوض، وكل تعاون متوازن منهجي نزيه بينهما يدعم أهداف السيادة والاستقلال مع التحرر وأهداف التعايش مع الآخر تعدديا على الصعيد القطري والعربي والإسلامي.
النهوض إلى مستوى الواجب
إن كثرة حديث الناصريين عن جمال عبد الناصر، لا سيما في المناسبات، كيوم ميلاده، ويوم وفاته، وبعض أيام إنجازاته، ويوم انقلاب مجموعة الضباط الأحرار أو ثورتهم في عهده، إنما هو حديث يكشف عن عدد من الأمور، التي ينبغي التمعن فيها كيلا تتحول الناصرية إلى مجرد اتجاه للتغني بأمجاد الماضي، وكان هذا مما يعيبه القوميون على الإسلاميين، وإلى غشاء يحول دون رؤية أخطاء الماضي لتجنبها، ويكفي التنويه بأمرين من تلك الأمور:
١- الناصرية لا تحتاج إلى زعيم أدى دوره، وأصاب وأخطأ، وقضى نحبه، بل تحتاج إلى زعماء وقادة يظهرون الآن، ويفكرون ويتصرفون، وفق ما تقتضيه المرحلة التاريخية التي يعيشونها الآن، ويطرحون منطلقات وفكرا ومناهج، تعالج معالجة واقعية هادفة العلاقة مع الآخر داخليا وعربيا ودوليا الآن، ليمكن -إذا أرادوا- تحقيق منجزات الآن، دون أن يغيب عن الأذهان، أن كل عمل يمكن أن يتعرّض إلى أخطاء، إنما الإنجازات هي التي تعلّل الوقوع في الخطأ فتسمح بتقبله، شريطة رؤيته وتصحيحه في الوقت المناسب، كيلا يتحوّل كما وقع في عهد عبد الناصر إلى بذرة تنمو في تربة احتكار السلطة وتتحول إلى نبتات خبيثة من بعد.
٢- الناصرية لا تحتاج الآن إلى موطئ قدم "حزبي" في مصر، فجمال عبد الناصر بمحاسن عهده ومساوئه لم يكن "حزبا" بل كان تيارا، ولم يكن شخصا بل كان نموذجا، ولم يكن يعبّئ الطاقات التي اعتمد عليها من خلال كلمات وبيانات وعودة إلى الماضي، بل من خلال سياسات وتحركات وأعمال مرئية على أرض الواقع.
إن "حركة الناصريين" بغض النظر عن تسميتها، تبدو لمن يقف خارج إطارها، حركة من الماضي، أو حركة كلمات ومقالات يكرر بعضها بعضا، وتنشرها مواقع شبكية افتراضية، مرارا، ولا تبدو -بما فيه الكفاية- حركة سياسية أو تيارا قوميا أو اتجاها حزبيا، وليس القصد من هذه الكلمات التهوين من شأن طرف موجود في الساحة، إنما القصد البحث عن الأرضية التي يمكن أن يقف عليها جميع الأطراف الرافضة للجوانب السلبية الخطيرة المنتشرة في الواقع الراهن، والبحث عن أجوبة عملية فاعلة لمواجهتها وليس إلى استعادة واقع قديم، كان في نهاية المطاف مقدمة إليها، رغم إيجابياته.
إن الالتحام بواقع العرب والمسلمين، قطريا وعربيا وإسلاميا، في عصر التكتلات الكبرى المعاصرة، وتسارع الأحداث والتطورات في اتجاه تكوين "قطب شمالي متحالف" سواء بزعامة انفرادية أو زعامة أمريكية مشاركة، وإن الالتحام بين التوجهات العربية والإسلامية التي تصنع الانتصارات المرجوة، هو الواجب المفروض على جميع الاتجاهات والحركات والأحزاب والتيارات، إذا ما انطلقت من الإخلاص على مختلف المستويات لقضايا الأمة، قطريا وعربيا وإسلاميا وإنسانيا، لترتفع بنفسها إلى مستوى احتياجات هذه القضايا، وتحريرها من قبضة صناعة القرار من خارج نطاقها، ومن قضبان التشرذم والضعف والعجز عن أداء المسؤولية على صعيدها.
ليس الناصريون وسواهم من الحركات والأحزاب والتيارات والجماعات هم الشعوب أو الأمة، بل وسائل لتحقيق أهداف الشعوب والأمة، وليسوا النخبة التي يجب أن تسير الشعوب والأمة من ورائها، بل هم جزء منها يرتبط وجودهم هم بالسير على خطى الشعوب والأمة، وعندما يتحقق مثل هذا الالتحام، ويلتزم بمقتضياته كل فريق من منطلقه الذاتي وتصوراته، يتلاقى الجميع على أرضية مشتركة تحميها المصالح العليا المشتركة، لا غنى عنها في واقع بلادنا وعالمنا وعصرنا الآن، ولن نكون في غنى عنها في قادم الأيام.
نبيل شبيب