رأي
طوال فترة الحرب الباردة التي سادت أربعين سنة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي، بقي مبدأ الردع النووي ساري المفعول، يؤدي الغرض الأساسي منه، وهو الخوف من ضربات نووية مضادة إذا استخدم أحد الطرفين سلاحا نوويا ضد الطرف الآخر، ولم توضع فعاليته على المحك إلا قليلا لا سيما فيما عرف بأزمة كوبا وكانت ذروتها خلال شهر تشرين أول / أكتوبر سنة ١٩٦٢م، ومع تطور الأزمة الراهنة الناشبة عن الاجتياح الروسي لجزء من أراضي أوكرانيا، والدعم الغربي العسكري لها لمواجهة القوات الروسية، ثم تطورات ذلك حتى أواخر عام ٢٠٢٢م، انطلقت التحليلات التي تقارن بين ثنائي خروتشوف-كنيدي وثنائي بوتين-بايدن، وتطرح تشابه المرحلة الراهنة من الصعود الروسي مع مرحلة الصعود الأول للاتحاد السوفييتي آنذاك إلى موقع دولة عظمى، تريد أن تحتل لها مكانا موازيا للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت القوة العظمى الأولى الفاعلة في الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
خلال الحرب الباردة تبنى حلف شمال الأطلسي بزعامته الأمريكية لنفسه قاعدة توصف بالعقيدة العسكرية، (أو توصف تعديا على القوانين الدولية بكلمة: حق) وهي القاعدة التي تؤكد إمكانية توجيه الضربة النووية الأولى حسب التقديرات الذاتية لضرورة ذلك. آنذاك كانت الأسلحة النووية السوفييتية تناهز الأمريكية عددا ومفعولا، وإن لم تبلغ مستواها، فكان الطرفان أشد تخوفا من الضربة الثانية إذا تجرأ على توجيه ضربة أولى، علما بوجود معاهدات يطبقها الطرفان كي يبقى مفعول الردع وبالتالي الخوف من الردّ على ضربة أولى محتملة ساري المفعول، ومن تلك المعاهدات ما يقضي بعدم صناعة أسلحة دفاعية معينة، مضادة للصواريخ ذات الرؤوس النووية لدى الطرف الآخر.
لم يعد لهذا التوازن الموصوف بتوازن الرعب وجود بعد نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي والشيوعية في الشرق، وتفكك حلف وارسو. وصحيح أن الاتحاد الروسي في عهد بوتين قد ضاعف القوة الضاربة لتسلحه عسكريا، ولكن لم يبلغ ذلك مستوى ردع فعال أو قدرة فاعلة على الشروع في حرب نووية بغض النظر عن قابلية استخدام أسلحة نووية توصف بالتكتيكية، أي أن مفعولها محدود نسبيا، جغرافيا وتدميرا، ولكن لا يسهل استخدامه بسبب معطيات درجة الحد من انتشار الإشعاعات النووية في منطقة جغرافية يوجد فيها الجنود من روسيا على مقربة من الجنود والمدنيين من الطرف الآخر، ومن الأرجح أن يكون التهديد بضربة نووية هو محاولة لحفظ ماء الوجه إذا وافق الطرف الآخر، أي الغربي وهو مصدر تسلح الأوكرانيين، على الدخول في مفاوضات لا تُطرح بصيغة غالب غربي ومغلوب روسي، وهذا بالذات ما بدأ بعض علماء الدراسات والبحوث السياسية والأمنية في الغرب (مثل بيري بوسن أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامح MIT الأمريكي للبحوث الأمنية) بدؤوا بطرحه، وإن بقي طرحهم محدود الفعالية طوال استمرار قعقة السلاح وجعجعة التصريحات السياسية عبر الإعلام.
إن القرار المتعلق بنهاية الحرب في أوكرانيا ليس قرار استخدام السلاح النووي أو عدم استخدامه، إنما هو الاستعداد للتوصل إلى صيغة تجمع بين المستحيلات ظاهريا في الوقت الحاضر، وهي عدم قبول القيادات من الجانبين الظهور في موقع المهزوم، والبحث عن جواب على سؤال المستحيلات لا يجري علنا في تصريحات وإجراءات احتفالية، إنما خلف الكواليس، ومن خلال لعبة الضغوط العلنية والعروض السرية.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب