كلمة وفاء
في مثل هذا اليوم، في السابع عشر من آذار / مارس ١٩٨١م استشهدت بنان الطنطاوي العطار في عملية اغتيال آثمة في مدينة آخن بألمانيا، كانت تستهدف عصام العطار وأسرته، وكان مما تخاطب به الشهيدة زوجها وتضمّنه كتيبها “كلمات صغيرة”:
(كم أتمنى يا عصام- وهذا جزء من ضعفي البشري وشعوري الإنساني لم أستطع التخلص منه بعد- أن نعود قبل موتنا إلى دمشق، وأن نقضي ما بقي من حياتنا -إن كان في حياتنا بقية- هناك، وأن نُدفن -عندما يُحَمُّ أجلنا- في تربة الدحداح أو الباب الصغير، ولكن يبدو لي -والموت يتعقّبنا في كل مكان- أننا سنُدفن في الغربة كما عشنا في الغربة.. بعيدا.. بعيدا عن الأهل والوطن).
أم أيمن، ابنة الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، وزوج معلّم الجيل عصام العطار حفظه الله، استشهدت ودُفنت في الغربة، بعيداً بعيداً.. عن الأهل والوطن، وقد حرمت وأسرتها من الأهل والوطن، لا لذنب إلا أنها كانت مع زوجها ترهن حياتها ومماتها للعمل من أجل الأهل، أهل سورية جميعا، والوطن، الوطن السوري كلّه، بينما كان الأهل والوطن في قبضة الاستبداد والفساد.
وتابع زوجها عصام العطار الطريق، طريق الدعوة في سبيل الله، والجهاد ضد الاستبداد والفساد، والعمل من أجل الإنسانية والإنسان، والتحرّر والأحرار، والحق والكرامة والعدالة… تابع الطريق لعشرات السنين بعد حرمانه ممّن يخاطبها بقوله:
“بَنَانُ” يا أُنْسَ أَيّامي التي انْصَرَمَتْ
ولَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ
ولا يزال -وقد بلغ من العمر ما بلغ- كما عرفناه أيام الشباب قبل عقود، خطيبا في مسجد الجامعة في دمشق يصدع بالحق في فترة عقد الخوف فيها الألسنة وحطّم الأقلام، وما زلنا نراه اليوم (كتبت هذه السطور في ١٧ / ٣ / ٢٠١١م) وقد تقدم به العمر أكثر ولم تضعف همته وإن ضعف جسده، ولا يفتأ يذكر زوجه الشهيدة، ويمتد بصره إلى الأفق البعيد مستبشرا بمستقبل يصنعه جيل الشبيبة من الثائرين على الاستبداد والفساد في بلد بعد بلد، المصمّمين على العمل والتضحية والصبر والمصابرة إلى أن تستعيد الأوطان كرامتها ويستعيد الأهل أمانهم وحريتهم، في سورية، وفي كل بلد من البلدان، ويستعيد الإنسان إنسانيته، وآنذاك لا يكون من نصيب العاملين المخلصين من أمثال زوجه، أن تجد حياتهم الحافلة بالعطاء وبالجهاد ختامها في الغربة.. بعيداً بعيداً عن الأهل والوطن.
كانت تقول فيما تقول:
(كيف لا أكون متفائلة ونورُ الله يعمر قلبي، ويضيء عينيّ ودربي، وأنا أحسّ وأوقن -مهما ضاقت الدنيا، واشتدّت الظروف- أنّ الله معنا، يسمعنا ويرانا.. وأنّ الحق الذي نؤمن به، ونجاهد من أجله، لا بدّ أن يكون له النصر على الباطل.. وأنّنا سنفوز -إن صدقنا وصبرنا- بإحدى الحسنييْن: النصر أو الجنّة).
كانت تخاطب إخوتها وأخواتها فتقول فيما تقول:
(ألا فلْنهاجرْ -أيها الإخوة والأخوات- إلى اللهِ بقلوبنا وعقولنا وحياتنا، فلْنهاجرْ إلى كتاب اللهِ وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى هداية الإسلامِ في كلِّ مجال، ولْننطلقْ بالإسلام، ومنَ الإسلام، لنعيد بناء أنفسنا من جديد، وبناء مجتمعنا من جديد، وبناء عالمنا من جديد).
وكأنني بها الآن تلهج بشكر الله في العلياء وهي تبصر جيل الشبيبة في سورية وأخواتها، قد انطلقوا على الطريق، يواجهون الاستبداد والفساد ثائرين ثابتين صامدين صابرين، فيرتعد لمرآهم الطاغوت في أرضهم، والطاغوت في عالمهم، ويستبشر بهم الأخيار الأحرار في كل أرض وتحت كل سماء.
لقد أبصر جيل الثورة طريقه ومضى، وستصل به عزيمته وتضحياته آجلا أو عاجلا، إلى النصر الموعود، وستسفر الثورات المباركة عن إظهار الحق وإزهاق الباطل، وعن دحْر الطغيان راغما وسقوط الفساد والإفساد إلى حيث يستحق الفاسدون المفسدون في الأرض.
أدعو الله تعالى أن يرزقك -يا أم أيمن- وأخواتك وإخوانك من الشهداء نعيما دائما كما وعد، وأن يثبّت أقدامنا وأقدام جيل شباب الثورة على الطريق الذي مضيتِ عليه غير عابئة بالغربة والتشريد، والملاحقة في أنحاء الأرض بالرصد والكيد ومحاولات الاغتيال المتعددة، فلئن تحقق للمجرم ما أراد يوم استشهادك عند باب بيتك، فنصيبُه سخطُ الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنت من تحقق لك بإذن الله ما تطلّعت إليه من رضوان الله ومغفرته وجنّة عرضها السماوات والأرض، ولسوف نبقى من بعدك بإذن الله على العهد كما كنت ترددين (سنفوز -إن صدقنا وصبرنا- بإحدى الحسنييْن: النصر أو الجنّة).
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب