خواطر
إن الإعلان عن يوم الجمعة ٣٠ / ٩ / ٢٠١١م يوم “جمعة النصر لشامنا ويمننا” إعلان معبّر عن أنّ جماهير الثورة تدرك الأبعاد العميقة المشتركة فيها وفي النتائج المترتبة عليها مستقبلا، ومنها توحيد الأقطار العربية. وقد سكبت أقلام عديدة مدادها لتأكيد أن الاستبداد في البلدان العربية، استبداد واحد في جوهره، وإن اختلف في صيغ تطبيقه وتفاوتت درجات طغيانه، ومعظم ما كُتب بهذا الصدد أراد استشراف أن تشمل الثورات كافة الأقطار التي تسري عليها قاعدة حتمية الثورة على الاستبداد.
بل كان -ولا يزال- الاستبداد الذي انتشر في الأقطار العربية في حقبة تاريخية قريبة، أحد الأدلّة على عمق جذور الوحدة الشاملة لهذه المنطقة، وإنْ حرص أنصار الدعوة إلى وحدتها على تعداد العناصر الإيجابية بطبيعة الحال: العقيدة، اللغة، التاريخ، المصير، إلى آخره، فلم يستفيضوا في الحديث عن أنّ الانهيار في السلطة، في المجتمع، في الوضع التاريخي، وما شابه ذلك هو من العناصر المشتركة أيضا، بمنظور التقلبات التاريخية.
لقد انتشرت قابلية الاستعمار كما انتشر الاستعمار وكما انتشرت التجزئة وانتشرت المظالم، في جميع الأقطار العربية، بدرجات متفاوتة، وباختلافات جزئية في التفاصيل، وكان هذا الانتشار حتميا لأن المعطيات واحدة في تلك الأقطار، وبدأت الثورة فانتشرت فيها، بلدا بعد بلد، لأن المعطيات للثورة واحدة أيضا، وبالمقابل: لا بد أن تصل جميعا إلى التغيير الجذري التاريخي المنتظر، انطلاقا من هذه المعطيات المشتركة.
“النصر لشامنا ويمننا” شعار يعبر عن وحدة مواصفات المرحلة التي وصلت إليها الثورتان الشعبيتان في هذين القطرين العربيين، وينطوي في الوقت نفسه على مؤشر لهدف طبيعي مشترك يتمثل في الوحدة الجامعة ليس لهذين القطرين فقط، بل لسائر الأقطار الأخرى أيضا.
النصر لشامنا ويمننا حيث تحولت الثورة الشعبية هنا وهناك إلى مواجهة مباشرة بين الجماهير الثائرة والدبابات والرشاشات!
النصر لشامنا ويمننا حيث سقطت أقنعة مظاهر الحياة المرفّهة المخادعة عن وجوه الفئة الحاكمة من أقارب وأتباع فظهرت على حقيقتها: عصابات إجرامية مسلّحة في المدن والبلدات وفي المعتقلات والإصلاحات!
النصر لشامنا ويمننا حيث ظهر أن الاستبداد الفاسد يعتمد على شبكة أخطبوطية أنشأها عبر عقود على فئات تتشبث بالمنافع المادية المحضة دون ضمير، وعلى دورات ترويض لعناصر قمعية مجرمة دون إنسانية، وعلى ميليشيات مسلّحة بالأسلحة الثقيلة لا علاقة لها بشرف عسكري ولا أمني ولا وطني، وعلى مؤامراتٍ لتجزئة الشعب الواحد ومحاولات لا تنقطع لاستعداء مكوّناته، بعضها على بعضها الآخر، وعلى فئات مصطنعة من أدعياء الثقافة وأدعياء الدين وأدعياء الفكر وأدعياء الإعلام لا يختلف دورهم عن أدوار البلاطجة والشبيحة إلا من حيث ميادين توظيفهم في خدمة الاستبداد الفاسد والوسائل المناسبة له!
النصر لشامنا ويمننا حيث اقتصرت المواقف الإقليمية والدولية على مطالب تعطي المطلوبين لعدالة الثورة المهلة الزمنية بعد المهلة لزيادة جرائمهم التي سيحاكمون عليها، وسلكت مختلف السبل لتقتصر حصيلة الثورة على عمليات تجميل لِما يستحيل تجميله، وإصلاح لِما يستحيل إصلاحه، مقابل ربط بقاياه بمآرب واغراض إقليمية ودولية لا علاقة لها بالشعب وثورته، وبحرياته وحقوقه!
النصر لشامنا ويمننا حيث يزداد عدد الشهداء والجرحى فتزداد عزيمة الثوار ويزداد التصميم على طريق الثورة حتى “إسقاط النظام ومحاكمة النظام”.
النصر لشامنا ويمننا ليس مجرّد شعار يرفع في جمعة الثورة في البلدين الثائرين الجريحين، بل هو ما يخطّ سطوره ثوار الشعبين، بالدماء.
الوحدة القادمة وحدة شعبية حضارية
لقد فعل شعار “النصر لشامنا ويمننا” فعله في الجماهير الثائرة التي خرجت تردّده مع ما يرتبط به في المدن والبلدات اليمنية والسورية، لأنه يرتبط لدى الكثرة الكاثرة من الثوار في البلدين بعقيدتهم، من خلال أحاديث نبوية صحيحة، ومن ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظه في صحيح البخاري: (اللهم بارك لنا في شامنا، الله بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله في نجد؟ (قال الراوي) فأظنه قال في الثالثة: هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان).
شعار النصر لشامنا ويمننا خطوة ساهمت في صنعها عقيدة الغالبية من أهل البلدين، ولقد سبق لها أن صنعت الوحدة في تاريخ هذه الأمة، إنّما لا بدّ لهذه الخطوة الأولى المباركة التي تشير إلى عنصر الوحدة ضمن عناصر الثورات العربية، من أن تتبعها خطوات، ستظهر بصورة طبيعية في اللحظة المناسبة وتصنع المزيد.
– إنّ الأرضية التي تجمع هاتين الثورتين في اليمن والشام، هي ذات الأرضية التي تجمعها مع تونس ومصر وليبيا، ومع كل قطر يثور ليتحرّر من قبضة الاستبداد الفاسد، عاجلا أو آجلا.
– وإنّ رسوخ هذه الوحدة لا يتحقق كما ينبغي إلا على ما قامت عليه من قبل، وما تتوافر له المعطيات على أرض الواقع اليوم، وبتعبير أوضح:
وحدة المسلمين عقديا مرتبطة ارتباطا مباشرا بوحدة جميع من يسكن المنطقة على الأرضية الحضارية المشتركة، فالإسلام عقيدة للمسلمين في أرضهم وعالمهم وعصرهم، وهو أيضا نهج للمسلمين وغير المسلمين لتثبيت دعائم مجتمعاتهم ودولهم وعلاقاتهم على كلّ صعيد، تثبيتا يقوم على مبادئ وقيم وثوابت لا يختلف عليها اثنان سويّان عاقلان من جنس الإنسان، مهما تعدّدت الانتماءات والتوجّهات.
إنّها مبادئ الكرامة والعدالة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات المعنوية والمادية، في تنظيم المجتمع وبناء الدولة، وأمام قضاء حرّ نزيه، دون أي تمييز، ودون أي حصانة إلا “حصانة الإنسان” من حيث أنّه إنسان.
ولهذا لم يرد في النصوص الشرعية الملزمة ذكرُ مبدأ أو قيمة من ذلك كلّه إلا مقترنا بتثبيته لعامة البشر، من خلال ألفاظ واضحة ومعروفة من قبيل (بني آدم) (الإنسان) (أيها الناس) إلى آخره.
وما قامت للمسلمين منذ العهد النبوي وحدة ولا حضارة إلا على هذه الأسس، وما طرأ ضعف أو ظهر نقص في تطبيق الإسلام في الحكم وفي المجتمع، إلا واقترن بصورة من صور التمييز التي لا ترتبط بالنصوص، وإنما كانت تنشأ عن انحرافات ترفضها النصوص.
الشعوب الثائرة تعي ذلك وعيا معرفيا تاريخيا عميقا، وأعطت صورا حضارية مذهلة عنه في ثوراتها، رغم تعرّضها لأعتى صور القمع، ومرورها بأصعب الظروف، ورغم كل ما كانت تُتهم به من “انخفاض مستوى الوعي والنضوج”.. فردّت على أرض الواقع مثل تلك التهم إلى من كانت تنطلق على أفواههم وبأقلامهم.
الثورة التاريخية الكبرى في العصر الحديث في الأرض العربية ثورة تغييرية بعيدة المدى، ماضية على الطريق، وستزيل الاستبداد، والفساد، وستزيل التجزئة أيضا، وستبني صرحا حضاريا جديدا.
هذا ما ينبغي أن يدفع النخب السياسية وغير السياسية إلى النضوج كي تعي أبعاده؛ هذا ما ينبغي أن تستوعبه من دروس هذه الثورات، التي تضعها أمام خيارين لا ثاني لهما:
– إمّا السير مع الثوار، مع الشعوب، على طريق التغيير التاريخي الحضاري…
– أو الانفصال عن الثورات، فلا يبقى لهم مكان في المستقبل الذي تصنعه، مستقبل الحرية والكرامة والعزة والعدالة، ومستقبل الوحدة الحضارية المشترك، بإذن الله.
وأستودعكم الله وأستودعه شامنا ويمننا وسائر بلادنا وشعوبنا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب