تحليل
مشهدان في مسار قضية فلسطين، أم الثورات الشعبية العربية، لا ينبغي فصلهما عن بعضهما، لتقدير ما وصل إليه المشروع الصهيوني تقديرا موضوعيا، بعد أن مضى ما مضى على ولادته في مدينة بازل السويسرية:
المشهد الأول هو تلك الاقتحامات العدوانية المسلحة للمسجد الأقصى المبارك، والدخول في معركة همجية ضد المرابطين فيه، العزل من كل سلاح، المحاصرين من كل جانب، المحرومين من كل دعم حقيقي يتجاوز الكلام والآلام، وكان من المفترض أن ينهمر عليهم الدعم عطاء وعملا، من جميع أنحاء الأرض الواسعة الشاسعة التي يقطنها أكثر من مليار ونصف المليار من البشر، الذين يمثل المسجد الأقصى المبارك لهم القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين.
والمشهد الثاني هو الاستعجال الصهيوني لدرجة الهرولة، في متابعة بناء الأسوار العالية، وحواجز الأسلاك الشائكة، والتجهيزات الإلكترونية الحديثة، التي أصبحت تحاصر تلك الرقعة من الأرض المباركة من كل جانب، وهي التي رسخت تحت الاحتلال الصهيوني باتجاه المزيد حولها.
كلا المشهدين دليل على أنهم يقدّرون أن ما ينتظرهم في قادم الأيام، ويقرر مصيرهم، سوف يأتيهم من حيث لا يحتسبون، ويدفعهم الخوف من قادم الأيام إلى جعل أنفسهم مجرد مقاتلين ينتظرون وصول المعركة إلى ثكنتهم، في قرى محصنة أو من وراء جدر.
ولا يخفى مغزى امتداد التحصين الذاتي إلى الحدود مع مصر والأردن، أي حيث توجد أنظمة دخلت فيما يسمى معاهدات سلام مع الإسرائيليين، وهم لا يخشون بالتأكيد أن تنقلب عليهم تلك الأنظمة بنفسها -ما بقيت مسيطرة- لا سيما وأن مصر تخصيصا تواجه من التنكيل والتكبيل في عهد السيسي، ما لم تواجه مثيله في عهود أسلافه وصانعي أمثاله.
وإذا تركنا في هذا السياق الهدف المعروف بشأن محاولات تقسيم الأقصى، أو حتى استهدافه بالهدم لبناء الهيكل، فما الذي يجعلهم يستهدفون بالقوة المسلحة الفاجرة أولئك المرابطين فيه دون سلاح، ويستهدفون الصبية -كما يسمونهم- ممن يستخدمون حجارة أرضهم خارج الأقصى في مواجهة أعتى أنواع أسلحة عدوهم، فيهددونهم بتقنين إجراءات جديدة رادعة، لا تعرف -ككثير سواها- معنى لقانون أو قيمة إنسانية؟
* * *
يا أيها المرابطون من أهل فلسطين إن هؤلاء القوم يخشونكم ويخشون أولادكم أنتم، ولا يخشون على مستقبل مشروعهم الصهيوني من حاضر منهار على كل صعيد وواقع متخلف في كل ميدان، صنعته وتعيش فيه أنظمة أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية بين المحيطات الثلاث.
لا يخشون من سلاح مستورد، ومستشار أجنبي يتحكم باستخدامه، وسياسي يعتبر علاقته مع قوة دولية هي الضمان لوجوده من دون علاقته مع الشعب في البلد الذي يسيطر على أسباب السلطة فيه.
لا يخشون من حكومات تستورد منظمات أمنية أمريكية لحماية نفسها، ولا تستطيع ضمان الأمن الغذائي ولا الأمن الصحي لشعوبها، ناهيك عن أمن القضايا المصيرية للشعوب وأجيال الحاضر والمستقبل..
لا يخشون من نشوب معارك جديدة ضمن المعطيات الراهنة من تمزيق الحدود والعلاقات البينية، ومن الاقتتال والفتك بثورات تحرير الإرادة الشعبية، فإن نشبت حروب ما لن تكون نتائجها مختلفة عن حرب ١٩٥٦م التي فتحت بوابة البحر الأحمر لامتداد المشروع الصهيوني باتجاه آسية وإفريقية، وحرب ١٩٦٧م التي أسفرت عن النكبة العسكرية الثانية الكبرى في تاريخنا الحديث، وحرب ١٩٧٣م التي صنعت صنعا النكبة السياسية للتطبيع والتركيع، الأخطر من النكبات العسكرية نفسها.
لا يخشون شيئا من ذلك ولكن يحسبون حساب المستقبل وهم يبنون الآن الأسوار والحصون، دون وجود عدو خارجي مرئي مباشر، كما يضاعفون الآن استهدافهم لإنسان المستقبل من خلال تنكيلهم بجنس الإنسان وإرادة الإنسان ومعنويات الإنسان، من المرابطين داخل المسجد الأقصى المبارك.
هم لا يخشون من إنسان الحاضر سواء كان مكبلا بالقيود أو كان ممن يستخدمون القيود والأغلال لتكبيل الشعوب، ولكن يخشون من جيل المستقبل، وصناع المستقبل، من إنسان المستقبل من ذرية المرابطين ومن ذرية الثائرين، فهو الجيل الذي يعبر نفق الآلام، آلام مخاض استئناف مسيرة التاريخ وسيصنع المستقبل بإذن الله، فيتحول المشروع الصهيوني إلى عبارة عابرة في سجل التاريخ تقول:
لقد شهدت الأرض المباركة وما حولها احتلالا صليبيا استمر مائتي سنة وانتهى وشهدت احتلالا صهيونيا وهيمنة إقليمية وانهار هذا وذاك معا.
* * *
لهذا نتحدث في عصر الثورات التغييرية، عن قضية فلسطين باعتبارها المحورية المركزية للمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، والمنطقة الإسلامية ما بين المحيطات الثلاث، ولقد كانت بانتفاضات شعبها أم الثورات الشعبية من حولها.
ولهذا نؤكد أن كل من يعادي هذه الثورات الشعبية التحررية، يوظف نفسه ومن يتبعه عن جهل أو علم، خادما للمشروع الصهيوني، سواء سمى انقلابه ثورة، أو سمى همجيته مقاومة وممانعة، أو اعتبر ثروات الشعوب ملك يمينه فاستخدمها في تمويل العداء لإرادة الشعوب، أو جعل لنفسه مشروع هيمنة عدوانية طائفية إقليمية ينافس بها المشروع الصهيوني بمثله هدفا ومضمونا ووسيلة، أو يتقاسم معه ما يمكن أن يفرضاه -معا- من أسباب السيطرة على البلاد والعباد.
ذاك هو الوجه الفاسد الكالح الذي نراه في واقعنا المعاصر أما الوجه الثاني الذي نستشرف معالمه ويخشى العدو منه، فهو الذي يجعلنا نقول إن مسار الثورات الشعبية لم يفارق لحظة واحدة الطريق الصحيح، رغم النكسات الخطيرة، والتحركات المضادة، وقوافل الضحايا وضجيج المعاناة داخل الحدود، وموجات التشريد داخل الحدود وخارجها.
إن مسار الثورات التغييرية ماض مع فلسطين وحول فلسطين لصناعة جيل جديد، يرى كل عدو معالمه فيخشى ويستعد ويتحصن، ويستشرف كل مخلص تلك المعالم فيجدد الدعوة لأهله في فلسطين وأخواتها، وعلى امتداد بلاد العرب والمسلمين، بل يجدد الدعوة لكل من يستشعر أنه ينتمي لجنس الإنسان، ويؤمن حقيقة لا كلاما بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان وحرية الإنسان:
لا ينبغي أن يتلاقى أعداء الإنسان والإنسانية ويتعاونوا ويعقدوا الاتفاقات والتحالفات، على ممارسة الإثم والعدوان، دون أن نتلاقى من وراء الحدود والسدود على جهود متواصلة مشتركة للعودة بالإنسان إلى ما ينبغي أن تكون عليه حضارة الإنسان، وفق الشرائع الربانية التي عرفها مهد الأديان الذي يجسده المسجد الأقصى المبارك، ووفق ما استقام واعتدل من رؤى قويمة من عطاء الحكمة البشرية.
وأستودعكم الله وأستودعه جيل التغيير والتحرير ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب