ورقة تحليلية
ذريعة لاستهداف الإسلام؟ – أدوات مؤقتة وليس الإسلام – جزء من المشكلة هل نصنع الحل؟ – ثورة على أنفسنا
كشفت الثورات الشعبية عن الموقع الحاسم للإسلام عقيدة راسخة ومنهجا مطلوبا لدى عامة الشعوب، وهو في الوقت نفسه العامل الحضاري الجامع لأصحاب العقائد والقوميات المتعددة في دائرتنا الحضارية المشتركة.
ذريعة لاستهداف الإسلام؟
الهجمة الحالية غير مسبوقة حجما وتجنيا على العمل الإسلامي، عبر رفض ما سموه الإسلام السياسي، ومع التركيز على الإخوان المسلمين وحركات سلفية، وعلى المقاومة الإسلامية المسلحة ضد الاغتصاب والاحتلال والعدوان في فلسطين وأخواتها، وكذلك العاملة بغض النظر عن أخطائها ضد الاستبداد الهمجي المحلي والعالمي، وأصبح جميع هذه التسميات خلطة دولية وإقليمية، تشمل أيضا من يسمونهم تنظيمات إرهابية إسلامية!. وهي خلطة مقصودة، ليختلط حابل الصديق المزيف بنابل العدو المكشوف، فيضربا معا وفي آن واحد المصلح والمفسد في العمل للإسلام، هذا كله مع استهداف الإسلام نفسه في نهاية المطاف.
هل هذا من فكر المؤامرة كما يزعمون ويكرّرون زعمهم حتى يصدقه بعضنا؟ سيان ما يقولون، نحتاج نحن إلى رؤية واضحة، تصدر عن أنفسنا حول أنفسنا، ومن ذلك:
(١) معروف لنا من منظورنا الإسلامي ومعاييرنا الإسلامية ما نشأ منتحلا عنوان الإسلام، وهو من العنف غير المشروع إسلاميا.
(٢) بالمقابل نأبى الانسياق جملة وتفصيلا وراء تصنيفات إرهابية صادرة عن قوى دولية وإقليمية، لا علاقة لها أصلا بتطبيق الإسلام ولا تفسيره ولا الدفاع عنه، فلا أساس لتنصيب نفسها في موقع القاضي الحريص على تطهير الإسلام من وجه إرهابي قبيح، فضلا عن أن تاريخها وواقعها الحاضر من قبل هيروشيما حتى جوانتانامو والطائرات دون طيار، لا يؤهلها أصلا لتصنيف سواها بدعوى مكافحة الإرهاب.
(٣) معروف لنا أيضا أن العمل الحركي المنظم مرّ ويمرّ بمحن وكوارث عديدة، القليل منها ما يمكن تفسيره أو تأويله بظروف وضغوط خارجية فقط، والقسط الأعظم منها لا يمكن تعليله إلا بارتكاب أخطاء ذاتية جسيمة.
(٤) الأهم من هذا وذاك أنه تم تجاوز استهداف العمل التنظيمي، إلى كثير ممن يمثلون الفكر والفقه والدعوة والأخلاق والقيم من الأفراد، من علماء ودعاة ومفكرين وتربيويين وإعلاميين ومتظاهرين يكبرون وغيرهم، حتى المحجبات، وحتى العاملين في إغاثة خيرية. إن هذا الاستهداف الشمولي ينطوي تلقائيا على استهداف الإسلام نفسه، بل استهداف طاقة الإسلام لتوليد نهج حضاري إنساني شامل معاصر.
(٥) لا تعيش أي دعوة دون أدوات، فضرب الأدوات يعني ضربها، وهذا ما يعني ضرب المنهج الذي تدعو إليه.
أدوات مؤقتة وليس الإسلام
إذا كان السؤال عما يستهدفونه يفيد للمعرفة والوعي وحسن التصرف، فالسؤال الأهم من منظورنا الذاتي هو: ماذا نريد نحن باسم العمل للإسلام، وكيف نتفاعل مع ما نشهده في الواقع المعاصر حولنا؟
(١) سيان هل يستوعب صناع الهجمة الضارية الحالية أم لا يستوعبون، يجب أن نستوعب نحن أننا أفرادا وتنظيمات، مجرد أدوات، ولسنا الإسلام بحد ذاته، أي أن استهدافنا – إذا حقق أغراضه – لن يوقف مسيرة الإسلام الماضية إلى يوم القيامة.
ولكن يجب أن نؤكد بالمقابل:
(٢) لا يكفي في مواجهة استهدافنا أن نقول: الله عز وجل تعهد بحفظ دينه، فلن يحقق هذا الاستهداف أغراضه!
إن السؤال الحقيقي المطروح علينا هو: هل سنكون نحن أدوات على مستوى أمانة هذا الحفظ الآن، أم نخيب نحن، وتنتقل الأمانة إلى قوم آخرين؟
(٣) إن تعطيل مسيرة العمل للإسلام بسبب قصورنا، بمعنى تعطيل تحقيق أهدافه القويمة لسنوات أو لعقود من الزمن، يعني أن جيلنا هذا يحمل المسؤولية أمام الله عز وجل، وفي سجل التاريخ، وبين يدي الأجيال المقبلة من أولادنا وأحفادنا، عن عدم تحقيق ما نحمل نحن المسؤولية من أهداف مشروعة.
(٤) من هذه الأهداف: العدالة، الحقوق، الحرية، النهوض، الخير، إلى آخره، فهذا محور الأمانة الكبرى لاستخلافنا نحن، أثناء حياتنا الدنيا نحن، ومهما بلغت خسارتنا – أفرادا وجماعات – في هذه الحياة الدنيا، فالخسارة الأكبر ستكون آنذاك يوم الحساب.
(٥) ليست مسؤوليتنا هذه بسيطة، وليست عن أنفسنا فقط، بل تشمل ما يقع من خسائر بشرية إضافية وما نشهد من معاناة إنسانية إضافية، فردية وجماعية، ما بقيت القيم التي ندعو إليها غائبة نتيجة قصورنا أو تقصيرنا، خلال فترة حياتنا من عمر التاريخ، عن أداء الأمانة حق الأداء.
نسأل الله العفو والمغفرة.
(٦) استيعاب الإشكالية الذاتية دون ما يوصف باللف والدوران، أو التسويغ والتبرير والتمييع، أو جدال الطرشان، هذا الاستيعاب شرط لا غنى عنه، كي نسعى لإنقاذ أنفسنا الآن، ولأداء واجبنا على الوجه الأفضل، من أجل الإنسان ومستقبل الإنسان، وكذلك كي ينالنا العفو والمغفرة يوم القيامة.
(٧) ليست مسألة تطوير العمل للإسلام جانبية ولا أكاديمية ولا مجرد خيار من الخيارات، بل هي في صلب الأمانة الكبرى والمسؤولية الجليلة في أعناقنا ما دمنا نؤمن بدورنا في دار الابتلاء.
جزء من المشكلة هل نصنع الحل؟
جوهر مشكلة العمل للإسلام في عصرنا وعالمنا هو نحن، وليس هم وما يستهدفون وما يمكرون، وما يخططون وينفذون، فمسؤوليتنا عن أداء هذا العمل كما ينبغي، تتضمن تلقائيا وجوب تأمين أسباب الوصول إلى الهدف، رغم وجودهم وهيمنتهم وتفوقهم، ورغم جميع ما يصنعون واستمراره وتصعيده. ومن السذاجة بمكان بل ومن عدم الإحساس بحجم المسؤولية، أن نجعل إدانة ما يصنعون بديلا عما يجب أن نصنع.
كلا.. لن يكفّوا، وإذا اعتبرنا ذلك ضمنا شرطا لنجاح ما نصنع، كنا كمن يقول:
ما كان للدعوة الإسلامية أن تنطلق من مهدها الأول إلا بعد زوال قريش واختفاء الروم والفرس مسبقا!
إن في مقدمة ما ينبغي أن نقرّ به أننا نحن المشكلة من وراء عدم تطوير العمل إلى المستوى الواجب علينا نحن.
كل عمل، في كل ميدان من ميادين الحياة، يجب أن يتطور ويُعدل مواكبا المتغيرات في العالم والعصر، ولا يتحقق التطوير عبر تغيير بعض العناوين والشكليات، ولكن لا يعني التطوير المطلوب تبديل جوهر العمل، أي القيم والأهداف الصميمية التي أوجدته، بل يتطور هو من حيث كونه أداة لتحقيقها، ولا تصلح الأداة وإن صلح الهدف، إذا بقيت كما هي فلم ترتفع – أي نرتفع نحن – إلى المستوى المتجدد باستمرار حيث أصبحت عليه احتياجات الإنسان والعالم والعصر في مسيرة التاريخ، وكذلك ما لم نرتفع نحن إلى مستوى القدرة على الاستخدام الفعال للوسائل والتقنيات الحديثة، وجميعها متغير متطور.
يجب أن نستوعب أيضا: عجلة التطور تجري من حولنا، بتسارع كبير – وليس بسرعة عالية فقط – وفي جميع الميادين، عاما بعد عام، وليس قرنا بعد قرن فحسب.
بالمقابل: مضى على نشأة العمل الإسلامي التنظيمي الحركي زهاء قرن، وما زال إلى حد كبير – من حيث بنيته الهيكلية وأساليبه – كما نشأ، إلا في حدود بعض اللمسات التغييرية الجزئية والظاهرية المحدودة، ربما تحت وطأة الضغوط العملية، وليس نتيجة قرار ذاتي، أي كما لو كانت عملية التطوير البطيء تجري بالإكراه، علاوة على بطئها.
التطور المطلوب كبير وجذري وشامل، لا يتسع المقام لطرح جميع جوانبه وأبعاده ناهيك عن كيفية تحقيقه، هكذا.. في مقال أو حتى في كتاب، ولا عبر فرد أو بضعة أفراد، ولا حتى في مؤتمر من المؤتمرات.ينبغي ابتداءً أن ينتشر في قلب التنظيمات الإسلامية الاقتناع أولا بضرورة صناعة التطوير وأنها مصيرية، وبضرورة إيجاد الشروط الواقعية اللازمة لتنفيذه.
أصبح التطوير المطلوب أقرب حجما وأسلوبا إلى ما يصلح وصفه بالثورة الذاتية، ولا يصح إطلاقا أن يكون ردود فعل على مؤثرات خارجية. من ذلك على سبيل المثال، ومما يتجرأ كاتب هذه السطور على الاجتهاد بطرحه، من خلال ما عايشه وشارك لعقود فيه، وإن بقي تنظيميا خارج نطاق الجماعات الحركية الإسلامية التقليدية المعروفة.
لا غنى عن مواكبة كل خطوة من خطوات التغيير بشروط عديدة، منها:
(١) استيعاب متجدد لواقعنا والعالم والعصر، مع تحديد احتياجات العمل للإسلام في هذا الإطار.
(٢) فهم طبيعة الأدوات والوسائل المعاصرة لتحقيق أهداف كبرى من مستوى أهداف العمل للإسلام.
(٣) تطبيق ميزة التخصص عبر نشأة تنظيمات وهيئات ومؤسسات وروابط.. إلى آخره، يتخصص كل منها في ميدان من الميادين، كالعمل السياسي، أو الفكري، أو الاجتماعي، أو الأدبي، أو التربيوي، أو البحثي، أو بعض ما تفرع من تخصصات في هذه الميادين وغيرها، على أن تكون جميعا مستقلة استقلالا حقيقيا عن بعضها بعضا، فيمكن أن تتكامل، وتتعاون، ولكن لا ينبغي على الإطلاق أن تتبع تنظيميا وإداريا وتأثيرا تمويليا وتوجيهيا لقيادة حركية مركزية، في نطاق جماعة كبرى أو تنظيم اتحادي أو ما شابه ذلك، مهما استقام أفراده وأخلصوا.
(٤) اعتبار التزام المقاصد الشرعية الكبرى والثوابت الإسلامية الكبرى نظريا وتطبيقا – وليس العناوين والتسميات والشعارات والأشخاص والعلاقات واستمارات العضوية التنظيمية، ولا براعة الأقلام والألسنة – هي المعايير لاقتناعنا بصحة انتساب أي فرد أو تنظيم أو هيئة للعمل الإسلامي، وهي أيضا القواسم المشتركة التي تحدّد الوجهة العامة للتنظيمات التخصصية العديدة، دون الحاجة إلى قيادة عليا مشتركة في موقع علوي لمن يفكر ويخطط ويراقب ويأمر وينهى من فوق الجميع.
(٥) معيار المصداقية تخصيصا هو الالتزام رؤية ومنهجا ودعوة وتطبيقا على الذات، لما ندعو إليه في العمل للإسلام، كالعدالة والشورى والكرامة، والقيم والخير والمصلحة، وحقوق الإنسان وحرياته وأخلاقه، واستقلال شخصيته الفردية الذاتية، تربية وسلوكا وعلما وفكرا وتقريرا، وأن تكون الكفاءة أساسا لشغل كل موقع من المواقع، على مختلف المستويات وفي مختلف الميادين، وغير ذلك مما نعرفه ويردده صغيرنا وكبيرنا (وهو كثير وصميمي محوري، ونعايش ما يعني الانحراف عنه، مثل سيادة القضاء وشروطه ونزاهته، وتحريم القتل والتمثيل والعدوان…) لا سيما وأننا نقول إن الثورات الشعبية انطلقت لتحقيقه. ويستحيل أن نكون جزءا فاعلا على هذا الصعيد، إن لم نصل نحن إلى تطبيق ما ندعو إليه في نطاق ما نعتبره عملنا تحت عنوان الإسلام.
(٦) من مستلزمات الثورة الذاتية أن تعتمد على القواعد العريضة لا سيما من هم في عمر الشباب والعطاء، ذكورا وإناثا، من الشعوب نفسها، وهو ما كان يمثل انطلاقة شبه معجزة تاريخيا، للثورات الشعبية.
(٧) لا يصلح أن يكون التطوير المطلوب موجها، أي عبر قرارات قيادات تنظيمية قائمة، وصانعي القرار فيها، أو عبر تمويلها، هكذا على انفراد، أو بأسلوب: نحن نقود الشباب والنساء والعامة إلى ما يجب أن يصنعوه، وفق ما نراه من برجنا العاجي وقد بات أقرب إلى التقديس، مهما صنع بعضنا من قبل وأخفق. لا بدّ بدلا من ذلك أن تكون المشاركة مفتوحة وشاملة، وعملية تفاعلية حقيقية، نستجيب لبعضنا بعضا في الدعوة إليها والحث عليها واستشعار المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة من وراء ممارستها.
هذا مع السعي الجادّ المشترك من جانب القادرين في مواقع التأثير الأدبي وصنع القرار وتمويل العمل، لتأمين الأطر المناسبة من أجل الوصول لها وبها ومن خلالها إلى التطوير المرجو.
ثورة على أنفسنا
الخطاب للإسلاميين، من علماء ودعاة وحركيين ومفكرين ومموّلين، أفرادا وجماعات: يجب أن يتطور عملنا الإسلامي. لقد تجاوزته عجلة الزمن والأحداث من حوله، وقد تصيبه في مقتل إن تأخر عن تطوير نفسه، ليس للحاق بمن يصنع الأحداث فحسب، بل بالسرعة والنوعية والحجم الضروري ليتجاوز تلك القوى الكبرى التي تعمل من أجل ألا يتحقق هذا التطوير أصلا!
إن تطوير العمل للإسلام، هو ممّا نتحدث عنه كثيرا، ونشكو من افتقاده كثيرا، ونعتبره بألسنتنا وأقلامنا من أسباب تحقيق النصر. لن ننتصر عبر الاكتفاء بالحديث عن العمل لتحقيق أهداف الإسلام، لخدمة الإنسان بالإسلام في الحياة الدنيا، والأمل بتحصيل رضوان الله في الآخرة، لن ننتصر دون العمل بموجب ذلك، الآن، في هذه الحياة الدنيا، وما عاد ذلك ممكنا دون أن يثور كل منا على نفسه، يوميا، أي بصورة متواصلة متجددة.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب