تحليل
مع استكمال سيطرة القوى الدولية والإقليمية على مفاصل صناعة القرار في توجيه مسارات الثورة في سورية ازدادت غلبة المفعول السلبي للتعددية على التعامل مع الأحداث ومع طرح المواقف والرؤى والتحليلات والتمنيات. ولا يدور الحديث هنا عن بقايا نظام كانت منذ نشأته عصابات متسلطة، فلم يتبدل منظور العصابات لديها من قبل ولن يتبدل، لإدراكها أن أي تبدل عن نهج القمع والقهر والإجرام يعني وضع حد لوجودها، ليس من جانب قوى دولية وإقليمية، بل من جانب الثوار السوريين أنفسهم، وعلى وجه التحديد من يعتبر نفسه أو يعتبره سواه النخب منهم، النخب السياسية والفكرية والإعلامية ونخب الناشطين في مختلف الميادين.
لقد غلب على معظمنا من النخب وخارج نطاقها، مفعول عطب الذات على حد تعبير برهان غليون، و”اليأس من الذات” على حد ما ينشر في وسائل التناحر الاجتماعي، وأصبح معظم أفراد النخب ومن يتابعهم من العامة لا يرى في المستقبل أفقا إلا ما يمكن أن تصنعه القوى الدولية والإقليمية باعتبار سيطرتها على القرار، فوجد من يحشر من السوريين صناعة مستقبل شعب سورية في نطاق ما تصنع تلك القوى فقط، ويقدر النتائج على خلفية نزاعاتها واتفاقاتها ووعودها ومناوراتها، فيختلف مع أقرانه من السوريين، تبعا لاختلاف تصنيف تلك القوى سلبا وإيجابا، وقليلا ما يكون التصنيف بميزان أهداف الثورة الشعبية، بدلا من تعددية الانتماءات والتوجهات عقديا وقوميا وثقافيا وغير ذلك مما بات أوسع من قابلية تعداده واستيعابه. وكثيرا ما يكون التصنيف نتيجة التهويل أو التهوين من شأن ما تصنع أسباب القوة وموازينها، بغض النظر عن التزام من يستخدمها بالقيم والأخلاق والمواثيق وما شابه ذلك مما يتوافق مع أهداف الثورة وشعبها.
إن الثورة الشعبية بحد ذاتها تجسد ما تعنيه القيم والأخلاق والمواثيق، فلا يمكن دون هذه المعايير الوصول إلى رؤية كريمة لواقعها ومستقبلها، إلا إذا انطلقنا من واقع القهر قبل انطلاق الثورة، ومن يفعل ذلك لا يمكن أن يلتقي مع شعب ثار ليغير ذلك الواقع.
لا يدور الحديث بالضرورة عن مؤسسات وهيئات رسمية وشبه رسمية تتحرك باسم الثورة الشعبية، فالواقع المتقلب منذ انطلقت الثورة في آذار / مارس ٢٠١١م حال لأسباب ذاتية وخارجية دون صناعة استقلال ثوري، فكان تشكيل المؤسسات والهيئات وفي كثير من الأحيان تشكيل تنظيمات مجتمع مدني / أهلي أيضا، وحتى بذور إعلام جديد وبذور مراكز بحوث جديدة، بات جميع ذلك يُربط أيضا بقوى أخرى، عبر التمويل والإدارة وبعض الإنتاج.
هذا وضع فسيفسائي للنخب، وهو قراءة للواقع دون اتهام ولا تقويم ولا تبرير، ومن قراءته يظهر أيضا كيف بدأ يضمحل أمل الوصول إلى نظرة ثورية مشتركة لمستقبل المسار الثوري التغييري، ويغيب لصالح نظرات تعددية غالبا ما تكون متناقضة، حتى وصل بعضها إلى صدامات مباشرة في أكثر من مستوى عسكري وسياسي وفكري وإعلامي.
رغم ذلك ليس تقويم المسار الثوري وصناعة مستقبل ثوري مستحيلا، بل على النقيض من ذلك، وصحيح أن معظمنا لا يرى بصيص ضوء خارج النفق حاليا، ولكن علينا أن نستوعب أن السبب كامن في عدم رؤيتنا لما هو أبعد من موقعنا الحالي، وهو موقع معايشة الانكسار والقبول بها حاجزا يمنع الرؤية المستقبلية وفق السنن التاريخية، ومثلنا في ذلك تكرر ويتكرر عبر التاريخ، ومن ذلك (بغض النظر عن تفاصيل التشبيه) موقع من عايش مسار الثورة الشيوعية وكارل ماركس في منفاه في بريطانيا ولم يستطع أن يمد بصره في تلك اللحظة التي يعايشها إلى أبعد من أنفه ليقدر وجود رؤية مستقبلية تتناسب مع سقوط القيصرية الروسية وحلول الشيوعية مكانها بعد سنوات، ومثال ذلك من تاريخنا أيضا لحظات يُفترض أن تستدعي اليأس، عند معايشة المقاطعة في الشعب والحصار خلف الخندق والهزيمة في مؤتة، وهذا قبل سنوات من فتح مكة، وقبل عقود من وصول الراية إلى الأندلس والصين وبحر قزوين وتخوم روسيا.
إن مستقبل التغيير بعد الثورة قادم على كل حال، تتلاقى وتتنازع على صناعته القوى الإقليمية والدولية، ولا ينبغي أن يدفع ذلك أحدا ولا سيما النخب إلى الانكفاء والاندحار والنزاع البيني، بل هو بالذات ما يفرض تلاقي النخب المتعددة على قواسم مشتركة لتستعيد الثقة الشعبية بمواقفها وتحركها، كي تتكون لديها رؤية مستقبلية مشتركة، ويصبح لها وزن فاعل، لا غنى عنه من أجل التأثير الحقيقي على القوى الإقليمية والدولية ورؤية بصيص ضوء لانتصار ثورة شعبنا… وهو ما نعمل ويجب أن نواصل العمل من أجله.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب