توثيق – إلى الأمير زايد (رحمه الله)

(نشر الجزء الأول من الفقرات التالية يوم ٢٣/ ١١/ ١٩٩٧م في مجلة "الإصلاح" الإماراتية تحت عنوان "رسالة مفتوحة إلى الأمير زايد، وكانت بمناسبة ورد ذكرها آنذاك:

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1997م، اتخذ رئيس اتحاد الإمارات العربية، الأمير زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، موقفا متميّزا في الساحة السياسية العربية، دعا فيه إلى وحدة الكلمة والإصلاح، ووجد ذلك أصداء إيجابية، وإن لم يجد تجاوبا حقيقيا وعمليا على المستوى السياسي، فمضى القلم بصاحبه إلى كتابة رسالة مفتوحة موجّهة إليه على غير ما اعتاد.

ثم نشر النص مرة أخرى مع تعديلات وإضافات في "مداد القلم" بعد وفاته رحمه الله يوم ٦/ ١١/ ٢٠٠٧م.. ويعاد نشر النص كاملا في هذه الإصدارة من مداد القلم، مع مرور عشرة أعوام على وفاته)

 

رسالة مفتوحة إلى سموّ الأمير زايد (٢٣/ ١١/ ١٩٩٧م)

بعد تحيّة الإسلام.. أتوجّه بهذه الرسالة المفتوحة إلى سموّ شخصكم الكريم، وليس ذاك مما اعتدت عليه، ولا اعتدّت على الأساليب المتبعة في مثل تلك الرسائل، إنّما هي بعض المشاعر والتساؤلات والآمال، يثيرها ويدفع القلم إلى الكتابة عنها، ما نعايشه من أحداث جسام في منطقتنا العربية والإسلامية، والبحث عن سبيل تمكّننا وتمكّن بلادنا وشعوبنا، من دفع الأخطار المحدقة بها، والوصول إلى المكانة الجديرة بها في عالمنا المعاصر، في ظلّ ما يشهده من تطوّرات نوعية كبرى، وتحوّلات جذرية متسارعة، لا نكاد نلحق بها رصدا ومتابعة، فضلا عن مواكبتها، بل وريادتها، كما يوجب إسلامنا، وتقتضيه مصالحنا العليا، وتسمح به إمكاناتنا، إذا وجدت ما ينبغي أن تجده من حشد وتعبئة، وتخطيط سليم، وتوجيه قويم، وتوظيف مدروس، لتحقيق الأهداف العزيزة الغالية، في ميادين التقدّم والتطوّر، والتحرّر والوحدة، والكرامة والعزّة، والقوّة والمنعة.

ولقد فضّلت التعبير عن هذه الخواطر بهذه الطريقة المباشرة البسيطة الخالية من التعقيد والتكلّف، لأنّني لا أذكر أننّي التقيت بشخص من الإمارات -وقد التقيت بكثيرين- وسمعته يتحدّث عنكم بوصف سموّ الأمير، أو سيادة الرئيس، أو سوى ذلك من الألقاب المعتادة لرؤساء الدول، وإنّما بتعبير واحد، تعبير "الوالد"، مع كلّ ما ينطوي عليه هذا التعبير من مشاعر وأحاسيس، وتكريم واحترام، وتقدير يفوق بمضمونه ومغزاه سائر ما يمكن أن تعبّر عنه الألقاب، أو تصوّر أحيانا أنّها تعبّر عنه.

كان هذا ما أثار في النفس رغبة في البحث عن الأسباب، لا سيّما وأنّني قد أسمع من بعض أهل الإمارات نقدا لهذا الأمر أو ذاك في دولتهم -وليس في النقد البنّاء ولا الشكوى من الأخطار غضاضة- ولكن لم يكن يصل النقد إلى مقام "الوالد" ولا الشكوى إلى بعض ما يصنع. ونعلم أنّ في بعض البلاد العربية والإسلامية الأخرى نقدا وشكوى لا يرقيان أيضا إلى مقام الحاكم ولا يتعرّضان له، ولكنّ ما نرصده على ألسنة أهل الإمارات بالذات لا يقترن بما نلمسه ونراه في غيرها، من مشاعر الخوف أو نزعات التملّق، بل يحسّ من يسمع الحديث عن "الوالد" بصدق الحديث وعمقه.

 

وفي إطار البحث عن الأسباب، كان آخر ما تابعته من ساحة الإمارات، تلك الندوة التي شهدتها "أبو ظبي" تحت عنوان "مستقبل العالم العربي وجامعة الدول العربية"، وما رافقها من توجيهاتكم، ثمّ ما اتخذه المشاركون فيها من مواقف صريحة واضحة، وما أطلقوه من دعوات مباشرة، باتجاه هدف رئيسي ورد على لسانكم أيضا، أن تجد الحريات المشروعة وفي مقدّمتها حريّة الكلمة وأن تجد الحقوق الإنسانية وفي مقدّمتها حق المشاركة في صناعة القرار، مكانها في بلادنا، على مختلف المستويات وفي مختلف الميادين، وهو ما لا نحتاج إلى سوق الأدلّة على وجوبه من إسلامنا، فهي كثيرة، ولا على ضرورته من واقعنا المشهود، فدلالاته كافية، وأهمّها أنّ التقاعس عن سلوك الطريق إلى هذا الهدف، يزيد من حجم ما نشهده من مشكلات ومن خطورته وعواقبه.

 

ولا ينبغي أن يتكرّر مثل هذه المؤتمرات والندوات، عاما بعد عام، أو عقدا بعد عقد، ثمّ لا يقع التحوّل المنشود في حياة العرب والمسلمين، ولا يخفي على ذي بصر وبصيرة أنّ الحائل الأكبر دون ذلك، والذي ينتظر من يعمل على إزالته هو ذاك العزل الخطير لصناعة القرار السياسي والقائمين عليه، عن الفكر وما يصل إليه المفكّرون المخلصون من تشخيص للداء ووصف للدواء.

ولقد جاءت مبادرة ندوة أبو ظبي الطيّبة، وأثارت في النفوس بعض الأمل من جديد، ولم يكن قد مضى طويلُ عهد على مبادرة أخرى صدرت عنكم، وتركت أثرا عميقا انعكس تلقائيا فيما عبّرت عنه ألسنة وأقلام عديدة في المنطقة العربية والإسلامية، عندما أكّدتم في حديث من أحاديثكم الصريحة المباشرة، عددا من الأمور الجوهرية، في مقدّمتها ضرورة إنقاذ المنطقة العربية من منحدر الانهيار الحالي، عبر العمل الصادق لوحدة الصف العربي على أسس متينة، وبصورة شاملة، لا تستثني فريقا دون فريق، ولا تسمح بأن يكون في المنطقة العربية استعداد للصلح مع أعدى أعداء العرب والمسلمين وهم ما يزالون جاثمين في أرضنا عابثين بمقدّساتنا مغتصبين لحقوقنا فاتكين بأبناء أمّتنا، ثم لا يكون في المنطقة نفسها استعداد للصلح بين العرب أنفسهم وإن استمرت الخلافات في الفروع، أو بقيت بعض الضغائن من جرّاء اعتداءات ومواقف مشينة سابقة، ولم تتردّدوا -وللأسف فما زال التردّد قائما في بعض بلادنا- عن وصف حقيقة الانحياز الأمريكي لباطل عدوّنا على حساب حقوقنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهو ما لم تنقطع الأدلّة عليه، وكذلك لم ينقطع بالمقابل الاستمرار في تجاهله حينا، والتهوين من شأنه حينا آخر، أو في القبول به على مضض حينا، وتطويع أوضاع بلادنا وسياساتنا ومصالحنا له في أكثر الأحيان.

وأسمح لنفسي بالتأكيد لسموّكم، أنّ هذه الدعوة صدرت في فترة باتت الأمّة فيها أحوج ما تكون إلى اقتران الأفعال بالأقوال، والتجاوب العملي بالتجاوب اللفظي مع مثل تلك الدعوات، كما جاءت هذه الدعوة في فترة لم يعد فيها شكّ بأنّه لا نجاة لهذه الأمّة إلاّ بالعودة شعوبا وأنظمة، فكرا وممارسة، أهدافا وسبلا، تنظيرا وتخطيطا وتطبيقا، إلى الإسلام كما أنزله الله تعالى، دين توحيد ووحدة، وخير وهداية، وحقّ ورحمة، وإيمان وعمل، وإخلاص ومعرفة، وليس سوى العودة إلى الإسلام ما يمكن أن يُبطل دعوات المفترين عليه من خارج بلاده، وأن يُبيّن زيغ من يحمل اسمه ويتطرّف في شعاراته وأعماله وأهدافه، وأن يُظهر ضحالة التوجّهات القائمة إلى سواه، أو المضلّلة عنه وإن انتحلت عنوانه دون مضمون.

والأمل كبير في أن ينطلق عنكم مزيد من المبادرات، على سائر المستويات، وفي مختلف الميادين، لدفع الأنظمة العربية والإسلامية إلى التلاقي على أرضية الإسلام العقدية والحضارية والتاريخية المشتركة، وإلى إصلاح ما بينها وبين الشعوب في بلادنا الإسلامية، وإلى إزالة الخلافات والنزاعات التي تحول دون تعاون شامل وتكامل فعّال فيما بينها، وإلى تبنّي القضايا المصيرية وفق ما تقتضيه حقوقنا المشروعة العادلة، وأهدافنا الأصيلة الثابتة.

إنّنا لنشهد في عالم الغربة على أرض الغرب، ونقرأ ونسمع، في كلّ يوم شاهدا جديدا على ضرورة أن يقع التغيير المنشود في بلادنا نحو تحقيق أهدافنا المشروعة، ويبلغ بنا الأسى مبلغه، أنّنا من موقعنا هذا، نستطيع في كثير من الأحيان، أن نرصد ما يُنفّذ من مخطّطات على حساب حاضر بلادنا ومستقبلها، وأن نقدّر فداحة الأخطار المتفاقمة التي تهدّد شعوبنا وقضايانا المصيرية، وأن نلمس مباشرة أنّ فرصة النجاة مضت أو تكاد تمضي، لولا أنّ أملنا بالله تعالى أكبر من سائر ما نرصد من أخطار، وأنّ ثقتنا بوعده أرسخ من أن تتزعزع، وأنّ رجاءنا كبير في أن يقيّض الله لهذه الأمّة من يعمل مخلصا على الوصول بها إلى ما يحبّ ويرضى، في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل في كتابه الكريم {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم} والقائل جلّ وعلا {ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز}.

ونسأله سبحانه وتعالى علوّا كبيرا، أن يكتب لكم التوفيق لما يحبّ ويرضى، ونسأله العون والسداد على طريق الحقّ، ودوام الاعتصام بحبله المتين وشرعه الحنيف.

 

كلمات إلى أمراء الإمارات العربية (٦ /١١/ ٢٠٠٧م)

إلى أصحاب السموّ المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة

لقد ترك الأمير زايد، مؤسس اتحاد الإمارات إرثا ثقيلا، لا يتمثّل فيما يجب تصحيحه، بل في قياس أنفسكم على ما أنجزه في حياته، إذ لم يقتصر على توحيد البلاد على أرضية مشتركة، ونظام متماسك، رغم ما كان يراد بها من تجزئة خلّفها الاستعمار البريطاني، بل شمل وضع بلاده وشعبه على بداية طريق التنمية والنهوض، ووضع الإمارات في مكانة تليق بها على المستوى العربي والإسلامي، داعية إلى الإصلاح بين الحكام والشعوب، ومانحة نموذجا عمليا لإمكانية توحيد أقطارنا المقسّمة المجزّأة، وماضية في طريق توظيف الإمكانات التي حبا الله بها بلادنا على طريق التنمية والتطوير، وفي ميادين التضامن والمشاريع المشتركة، على المستويين العربي والإسلامي. ولعلكم بدأتم تتلمّسون ما تمارسه جهات دولية عديدة، رسمية وغير رسمية، من ضغوط على الإمارات حتى لتغيير البنية الهيكلية لتركيبتها السكانية وليس فقط لحماية حقوق من يعمل فيها من البلدان غير العربية والإسلامية.

لقد كان توحيد الإمارات قائما على أساس انتمائها العربي والإسلامي أولا، وعلى سلامة النهج السياسي الذي اتبعه أميرها "الوالد" داخليا وعربيا ثانيا. وإنّنا لنرصد بألم أنّ هذا وذاك أصبحا عرضة لخطر كبير من بعده.

إنّ كثيرا من الإنجازات على مستوى التربية والتعليم من صفوف حضانة الأطفال إلى الجامعات، وعلى مستوى الإعلام والسياسة والاقتصاد والأمن، يضمحلّ لصالح نشر معاول تهدم ما بنى الأمير زايد بالتعاون معكم أثناء حياته، ولا ينبغي الخروج عنه بعد رحيله.

 

إنّ إعطاء الأولوية للغة أجنبية في تنشئة الجيل الجديد وتحويل اللغة العربية إلى لغة إضافية مقيّدة مهملة، لم يصنع مثله أي بلد من بلدان العالم سلك طريق التقدم الحديث، وهو لا يعني فقط اعوجاجا في اللسان، بل اعوجاجا في الفكر والتوجيه والهوية والارتباط بتاريخنا الحضاري والقدرة على بناء صرح التقدّم الحقيقي، القائم على البحث العلمي والتقني باللغة الوطنية أولا، مع تعلّم اللغات الأجنبية باعتبارها أجنبية، وإتقانها للتعامل بها محليا ودوليا دون أن يكون ذلك على حساب مكانة اللغة العربية.

ليست اللغة العربية فقط لغة القرآن الكريم، والإسلام العظيم، والوحدة العربية والإسلامية، والتاريخ والمجد الغابر، والتراث والثقافة الذاتية، والمعرفة القويمة والإبداع، بل هي في الوقت نفسه اللغة التي قامت عليها حضارتنا ولا يمكن أن تقوم على سواها، وتحققت من خلالها لهذه الأمة مكانتها اللائقة بها بين الأمم، ولا يمكن أن تستعيدها من دونها، وهذا شأن الفرنسيين مع الفرنسية، والألمان مع الألمانية، واليابان مع اليابانية، والصين مع الصينية، وكل أمّة تسلك طريق التقدم مع لغتها الوطنية.

وما اللغة العربية وما شهدته في السنوات الماضية من تحجيم، وإهمال، وتقييد، وحشر في زوايا ضيّقة لا تكاد تُذكر في المدارس والجامعات والمعاهد ووسائل الإعلام والتوعية وغيرها، إلا مثالا على سواها من سياسات تقوم على الاستيراد الاستهلاكي بلا حساب، والأبنية الشامخة عمرانا من دون المصانع والمزارع، وشركات كبرى قائمة على الخدمات لا الإنجاز، بما يستفيد منه المهيمنون على البنية العالمية للمال والاقتصاد أكثر من أن يستفيد منه بلدنا العربي الإسلامي الإمارات، بأجياله الحالية والقادمة، حتى بات التعامل مع اللغة الأجنبية أشبه بالتعامل مع استيراد السيارات والأجهزة التقنية والإلكترونية والخبراء الأجانب ومدراء الأعمال، وسوى ذلك ممّا لا يبني صرحا حضاريا وإن أقام صرحا عمرانيا، ولا يوجد أساسا للمستقبل وإن صوّره سراب الرفاهية المؤقت نافعا في الوقت الحاضر. هذا إضافة إلى فتح الأبواب أمام كلّ من هبّ ودبّ للعمل على استخدام إمكانات الإمارات -إلا ما رحم ربي- لنشر الانحلال والفساد عبر كثير من الفضائيات ووسائل التضليل.

 

إنّنا نهيب بكم أن تعودوا إلى سياسة "الوالد الراحل" وإلى حمل الأمانة التي خلّفها على المستوى الداخلي ببساطة العلاقة بين الوالد وأبناء وطنه، وعلى المستوى العربي بالعمل الدائب من أجل توحيد الكلمة والإصلاح، وعلى المستوى الدولي بإعطاء الأولوية للمصلحة العربية والإسلامية على كل مصلحة أخرى وعلاقة دولية مهما بلغ شأنها، فمن دون ذلك لا يكون لاتحاد الإمارات مكانة في الدنيا، ولا يكون للمسؤولين عنها مثل ما نرجو أن يكون قد وجده الأمير زايد رحمه الله في الدار الباقية.

نبيل شبيب